Thursday, February 6, 2014

الدروس المستفادة من الدالاي لاما فيما يتعلق بدرجات الحرارة الأدنى من الصفر المطلق


ثارت «ضجة كبيرة» في الآونة الأخيرة في أوساط المدونات العلمية بشأن «تجربة أُجريَت حديثًا» أنتج فيها الفيزيائيون غازًا ذا جسيمات كَمية درجة حرارته سالبة — سالبة بمعنى: «أدنى من الصفر المطلق» — وإنه لأمر عجيب للغاية؛ لأنه من المفترض أن الصفر المطلق هو درجة الحرارة التي تتوقف عندها حركة الذرات كلها، حيث تتجمد الذرات دائمة الحركة في مكانها، وتتوقف حركتها تمامًا، فالمفترض أن يكون ذلك أبرد ما يمكن للبرودة أن تبلغه، فهل يمكن أن يكون ثمة شيء أبرد من ذلك؟

إليكم الإجابة القصيرة: نعم، يمكن إنتاج درجة حرارة سالبة؛ وقد حدث ذلك أول مرة عام ١٩٥١. ولكن الأمر ليس كما يبدو، فدرجات الحرارة تلك ليست أبرد من الصفر المطلق. فعلى سبيل المثال: لا يمكنك أن تبرِّد شيئًا ما حتى تنخفض درجة حرارته تحت الصفر المطلق. ففي الحقيقة — كما سأحاول أن أشرح — فإن الأجسام ذات الحرارة السالبة «تتصرف في الواقع كما لو أنها «أسخن» من الأجسام ذات الحرارة الموجبة أيًّا كانت درجتها.
وحتى يتسنَّى لنا فهم ذلك لا بد أولًا أن نعرف ما يعنيه الفيزيائيون بالحرارة. ربما تتذكر مما درسته في الفيزياء أو الكيمياء خلال المرحلة الثانوية أن الحرارة تقيس متوسط الطاقة الحركية المتولدة عن حركة الجسيمات؛ فعندما تسخِّن المادة، تسرِّع بذلك حركة جزيئاتها، وعندما تبرِّدها، تبطئ حركة تلك الجزيئات.
بدا لي ذلك التعريف منطقيًّا تمامًا عندما كان بإمكاني رؤية الأمر بنفسي، وإليك «موقفًا يمثل محاكاة» حيث يمكنك أن تعبث فيه بجزيئات الغاز: شغِّل المدفأة، ثم ارفع الحرارة أو اخفضها، وانظر ماذا يحدث.
لا بأس حتى الآن، ولكن الفيزيائيين أدركوا أن ذلك التعريف للحرارة ليس صحيحًا دائمًا؛ لأن ثمة أنواعًا أخرى من الطاقة غير الطاقة الحركية المتولدة عن الحركة، بل إنه في بعض الحالات يكون بالجسم طاقة، دون أن يتحرك أي شيء داخله فعليًّا بالمعنى المتعارف عليه، كالدوران المغناطيسي داخل المغناطيس، أو منظومة الآحاد والأصفار على القرص الصلب بجهازك، فهذه في جوهرها أنظمة كَمية، حيث من المنافي للمنطق أن نتحدث عن أشياء تتحرك، وإن كان لا يزال بإمكانك تدوين مقدار ما بها من طاقة. وهكذا، فقد اتضح أن علم الفيزياء بحاجة إلى تعريف أكثر جوهرية للحرارة، من شأنه أن يفسح المجال لتلك الاحتمالات.
وإليكم التعريف الجديد الذي توصلوا إليه: «تقيس الحرارة مدى استعداد الجسم للتخلي عن الطاقة.» مهلًا … فقد كنت أكذب، إذ لم يكن ذلك تعريفهم للحرارة «حقًّا»؛ لأن الفيزيائيين يتحدثون لغة الرياضيات وليس اللغة العادية، فهم يعرِّفونها كالآتي: 1T=dSdE؛ أي إن الحرارة تتناسب عكسيًّا مع ميل منحنى القصور الحراري مقابل الطاقة.
فإذا كنت لا تتحدث لغة الرياضيات، فسأطلعك على سر صغير؛ إنك لست بحاجة إلى معرفة أي شيء عن الرياضيات أو الفيزياء حتى تفهم كيفية عمل الحرارة، فيمكنك استخدام تشبيه دقيق إلى حد مدهش، وقد سمعت بذلك التشبيه للمرة الأولى عندما كنت طالبًا وكان ذلك في مرجع ممتاز عن الفيزياء الحرارية لدانييل شرودر.


تخيَّلْ عَالمًا يتبادل فيه الناس المال باستمرار سعيًا وراء الحصول على السعادة، وعلى الأرجح لن يكون تخيُّل ذلك عسيرًا عليك، ولكن الأمر ينطوي على خدعة صغيرة.
فقد اتفق أفراد ذلك المجتمع على أن يعملوا على تحقيق أكبر قدر من السعادة — ليس سعادتهم الخاصة فحسب، وإنما السعادة الإجمالية في المجتمع — وكان لذلك تبعات مدهشة؛ فعلى سبيل المثال: قد يشعر بعض الناس بسعادة جمَّة عندما يجنون القليل من المال، ويمكننا أن نسميهم «طماعين»، والبعض الآخر من الناس لا يأبه كثيرًا بالمال؛ فلا يشعر بسعادة غامرة عندما يجني بعض المال، ولا يشعر بحزن شديد عندما يفقده، وهؤلاء هم «الكرماء»، فإذا اتبعوا قواعد اللعبة، ينبغي لهم أن يمنحوا الطماعين المال، حتى يرفعوا مستوى سعادة المجتمع الإجمالية.
لماذا اخترعت تلك المدينة الفاضلة الاشتراكية التي ينتشر فيها إعادة توزيع الدخل؟ لأنها تشبه الطبيعة الفيزيائية للحرارة إلى حد كبير (فكما قال ستيفن كولبرت: إن الواقع مشهور بانحيازه لليبرالية).
ها هو التشبيه؛ يمثِّل المجتمع الاشتراكي ما يسميه الفيزيائيون النظام المعزول، ويمثل الناس الأجسام في ذلك النظام، والمال الذي يتبادلونه هو فعليًّا الطاقة — كمية تتم المحافظة على مجموعها الكلي ولكن يتم تبادلها باستمرار — أما السعادة فتمثل القصور الحراري، فمثلما يرغب المجتمع في تحقيق أكبر قدر من السعادة، كذلك الأنظمة الفيزيائية تحركها «الحاجة إلى بلوغ الحد الأقصى من إجمالي القصور الحراري»، وأخيرًا، تمثل سمة الكَرَم الحرارة؛ أي مدى استعداد الناس (أي الأجسام) للتنازل عن المال (أي الطاقة).
هل يبدو استيعاب كل هذا أمرًا عسيرًا؟ إليكم قاموسًا يسيرًا يتيح لكم ترجمة التشبيه الذي نتعامل معه إلى فيزياء حقيقية:
المال  الطاقة
السعادة  القصور الحراري
الكَرَم  الحرارة
وبالبحث في هذا القاموس، يُترجَم كل ما قلناه عن المجتمع الذي تحدثنا عنه إلى عبارات ذات مدلول فيزيائي.
والآن تخيلوا أن مجتمعنا مكوَّن من أناس مثل وارن بافت. في البداية، عندما يكونون فقراء، فإن كسب المال يورثهم سعادة جمة؛ ولكنهم إذ يزدادون ثراءً، لا يورثهم القدر ذاته من المال قدرًا مكافئًا من السعادة، فإذا وضعت رسمًا بيانيًّا يمثل سعادة أولئك الأشخاص على شاكلة وارن بافت مقابل ثروتهم، فسيبدو الرسم كالتالي.



في هذا العالم، يجلب لك كل دولار سعادة أقل من سابقه؛ لذا، فمن أجل رفع مستوى السعادة الإجمالي، ينبغي أن يمنح شبيه بافت الغني شبيهه الفقير مالًا. ففي هذا العالم يزداد الناس كرمًا كلما جنوا أموالًا أكثر؛ أو «نظام ترتفع درجة حرارته كلما اكتسب طاقة».
يصف منحنى بافت الجسيمات الطبيعية التي عرفناها وأحببناها، التي ترتفع درجة حرارتها لدى تسخينها، فتلك هي الذرات دائمة الحركة داخل المواد الصلبة أو السائلة أو الغازية.
والآن، فكروا في المقابل في عالم يسكنه بخلاء، مثل شخصية عم دهب، فكل دولار يجنونه يزيدهم سعادةً عن سابقه.




فعلى عكس أشباه بافت، إذا أعطى أحدُ أشباهِ دهب الأغنياء دولارًا لأحد أشباهه الفقراء، فسيؤدي ذلك إلى خفض السعادة الإجمالية لمجتمع أشباه دهب؛ أي إن «كرم أشباه عم دهب يقل كلما زاد ما يجنونه من مال». فإذا استخدمنا قاموسنا، يكون هذا نظامًا «تنخفض حرارته كلما اكتسب طاقة».
تأملوا تلك الفكرة الأخيرة لوهلة، هل يمكن حقًّا أن تجد جسمًا تنخفض درجة حرارته كلما أكسبته طاقة؟
يحدث ذلك فعلًا، عندما يكون لديك مجموعة من الجسيمات يجذب بعضها بعضًا، فالنجوم ترتبط معًا بفعل الجاذبية، «وتتصرف بهذا الأسلوب بالضبط»؛ فعندما يفقد النجم طاقة، ترتفع حرارته، وإذا زوَّدت نجمًا بالطاقة، فأنت في الواقع تبرِّده. وتسلك الثقوب السوداء ذلك السلوك الغريب بدورها؛ فكلما تغذَّت بالطاقة ازداد حجمها، ولكنها تزداد برودةً.
وإن لم يكن ذلك منافيًا للبديهة بالقدر الكافي بالنسبة لكم، فإليكم سيناريو آخر: تخيلوا عالمًا بلغ فيه الناس حدًّا من الثقافة والتنوير، حتى إنهم يزدادون سعادةً حقًّا كلما «فقدوا» المال.

في هذا المثال، كل دولار يتلقاه الدالاي لاما يزيده حزنًا؛ ومن ثم يميل بطبيعته إلى منح ماله كله إلى أي شخص مستعد لأخذه. فذلك المنحنى الغريب — المعكوس — ينطبق «تمامًا» على الحالة التي تسفر عن درجات الحرارة السالبة، ما عليكم سوى أن تعيدوا تسمية السعادة لتصبح قصورًا حراريًّا، والمال ليصبح طاقة (من الناحية الرياضية، يكون ميل ذلك المنحنى سالبًا؛ لذا لا بد أن تكون درجة حرارته سالبة).
ماذا يحدث عندما يلتقي جسم ذو حرارة سالبة جسمًا ذا حرارة موجبة؟ حتى نعرف الإجابة، تخيل أن يلتقي الدالاي لاما بوارن بافت.
المفارقة أن يهَبَ الدالاي لاما ماله للملياردير بافت؛ لأن فقدان المال يزيد سعادة الدالاي لاما، بينما جني المزيد من المال لا يزيد سعادة وارن بافت إلا بقدر ضئيل؛ ففي إطار عملية التبادل الغريبة هذه، يرتفع مستوى السعادة الصافي. وباستخدام قاموسنا، نجد أن «الطاقة تتدفق من الجسم ذي الحرارة السالبة إلى الجسم ذي الحرارة الموجبة أيًّا كانت درجتها!»
قد يبدو ذلك من وحي خيال منظِّر مفرط الحماس، إلا أنه ثمة مواد حقيقية يكون فيها منحنى القصور الحراري مقابل الطاقة يشبه منحنى الدالاي لاما للسعادة مقابل المال؛ أي الحالة التي تكون درجة الحرارة فيها سالبة.
وحتى تصل إلى هذه النتيجة، عليك أولًا أن تصمم نظامًا ذا حد أقصى للطاقة؛ وذلك أمر شديد الندرة؛ فالمواد العادية التي نراها كل يوم تتمتع بطاقة حركية متولدة عن الحركة، وليس بها حد أقصى لما يمكن أن تمتلكه من طاقة حركية.
فالأنظمة التي تمتلك حدًّا أقصى للطاقة لا ترغب في أن تكون في حالة الطاقة القصوى، فكما أن الدالاي لاما لا يكون سعيدًا عندما يملك الكثير من المال، قلَّما يكون لدى تلك الأنظمة قصور حراري (أي قلَّما تكون) في حالة الطاقة العليا. فيجب أن «تخدع» النظام من خلال التجربة حتى تصل إلى تلك الحالة.
تحقق ذلك للمرة الأولى في إطار تجربة عبقرية أجراها «بورسل وباوند» عام ١٩٥١، تمكنا فيها من خداع دوران النوى داخل بلَّورة من فلوريد الليثيوم حتى تصل إلى تلك الحالة المستبعَدة من ارتفاع مستوى الطاقة. وفي تلك التجربة، أبقَيَا على درجة حرارة سالبة لبضع دقائق، ومنذ ذلك الحين، أمكن التوصل إلى درجات حرارة سالبة في تجارب عديدة، آخرها تم في ميدان مختلف تمامًا، تضمَّن ذرات فائقة البرودة لغاز كمي محبوس في شعاع ليزر.
فمن الثقوب السوداء إلى الغازات الكمية، يتبين من ذلك التشبيه أن الحرارة ظاهرة أكثر تعقيدًا بكثير مما نقيسه بالترمومتر.



No comments:

Post a Comment