Sunday, February 9, 2014

محمد لطفي جمعة : بزوغ فجر جديد بعد ليل دامس طويل: من مذكرات المرحوم مصطفى كامل - جريدة الدستور ١١ مايو ١٩٤٧


قال حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق وهو يزور قبر المغفور له والده يوم الجلاء عن العاصمة، وقد اغرورقت عيناه بالدموع: «هذا يوم كان والدي رحمه الله يود أن يراه.»
وكان كبار المصريين من الجيل السابق يتمنون، تبعًا لسنة العاهل العظيم الراحل، ولا سيما المجاهدين منهم، أن يشهدوا هذا اليوم، ففرحت أرواح مؤسس الأسرة العلوية وأولاده وأحفاده وفيهم إسماعيل العظيم وعباس حلمي الذي خُلِعَ ونُفِيَ وتُوُفِّيَ بعيدًا عن وطنه، فعليهم الرحمة جميعًا.
وكان كتَّاب الجيل السابق ولا سيما المرحوم إبراهيم المويلحي وحافظ إبراهيم يطلقون على حلفائنا السابقين صفة «حمر الوجوه، وحمر الثياب»، أما حمرة وجوههم فمعلومة، وأما حمرة الثياب فلأن ملابسهم كانت فعلًا حمراء، ولم يغيروا لونها إلا في الحرب العالمية الأولى مجاراة لفن التغمية وهو اتخاذ ملابس وقبعات، يمكن اندماجها في ألوان الأراضي والجبال والأتربة في ميادين القتال.
ولهذا تعود أبناء عهد الاحتلال أن يقولوا فيما بينهم: «اللهم إني أعوذ بك من ثلاث: الموت الأحمر والرداء الأحمر والكتاب الأحمر»، وهو مجموعة القوانين العسكرية التي انطوت على أحكام المحاكم العسكرية المخصوصة التي كان يحاكم بها كل مصري وأجنبي غير إنجليزي ينسب له التعدي بالقول أو الإشارة أو بفعل على جندي من جنود الاحتلال أو ضابط من ضباطه.
قال المرحوم زعيم الوطنية الأول مصطفى كامل باشا بتاريخ ٢٧ فبراير سنة ١٨٩٥ ما نصه:
جاء في الأمر العالي المؤذن بتشكيل محكمة مخصوصة للفصل فيما يقع من الأهالي من الجنايات والجنح، على جنود جيش الاحتلال وضباطه:
(١) تشكل محكمة مخصوصة للفصل فيما يقع من الأهالي في القطر المصري من الجنايات والجنح على العساكر ورؤسائهم التابعين لحكومة جلالة الملكة البريطانية أو على رجال البحرية البريطانية الراسية في أحد الموانئ، وتعقد هذه المحكمة جلساتها في نفس الجهة التي وقعت فيها الجناية أو الجنحة.
(٢) تؤلَّف تلك المحكمة من ناظر الحقانية بصفته رئيسًا والمستشار القضائي، قاضي إنجليزي من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية يختاره ناظر الحقانية، من يكون قائمًا بأعمال المحاماة والقضاء في جيش الاحتلال بالقاهرة أو الإسكندرية، من يختاره ناظر الحقانية من رئيسي محكمة مصر أو الإسكندرية الابتدائيتيْنِ أعضاءً.
(٣) إلقاء القبض على المتهمين يكون بناءً على أمر حكمدار بوليس مصر أو حكمدار بوليس الإسكندرية (وهو دائمًا إنجليزي) أو مندوبهما، وإجراء التحقيق يكون أيضًا بمعرفتهما أو بمعرفة مندوبهما.
(٤) تُرفع الدعوى أمام جلسة علنية بالمحكمة، بمجرد إتمام التحقيق، وتكون المرافعة شفوية، ويختار البوليس (كذا) محاميًا لإثبات التهمة على المتهمين، ويجوز للمتهمين أن يستعينوا بمن يدافع عنهم أمام المحكمة، ويبدأ بسماع شهود الإثبات ثم سماع شهود النفي، وتراعي المحكمة الأحوال المقررة في قانون تحقيق الجنايات الأهلي، متى كانت نصوصه أو أحكامه لا تعيق سرعة السير في الدعوى. وتصدر الأحكام في نفس الجلسة التي رفعت إليها الدعوى، ولا يقبل الطعن فيها بأي وجه كان من الأوجه المنصوص عليها في قانون تحقيق الجنايات المذكور آنفًا، وتكون الأحكام صادرة من المحكمة المخصوصة واجبة التنفيذ في الحال.
(٥) لا تكون المحكمة المخصوصة مقيدة بأحكام قانون العقوبات، بل تحكم بعقاب مرتكبي الجنايات والجنح بالعقوبات التي ترى لزوم الحكم بها بما فيها عقوبة الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة.
هذا هو نص القانون الشاذ الظالم الذي فرضته سلطة الاحتلال على الأمة المصرية، بعد خمس عشرة سنة من وجود الجيش الإنجليزي في مصر، وهو قانون أقسى وأفدح من القوانين العرفية التي تطبق في ميدان القتال.
وكتب لورد كرومر إلى الحكومة المصرية تبليغًا رسميًّا جاء فيه:
حضرة صاحب السعادة وزير الداخلية
إن القانون الدولي يخول لجيش الاحتلال، إقامة الأحكام العرفية على جميع القاطنين في القطر المصري من وطنيين وأجانب، لمحاكمة المعتدين على عساكرنا، وقد سبق وتشكلت محكمة مخصوصة لمحاكمة بعض أعراب الجيزة لتعديهم على جيش الاحتلال، وإني مع اعترافي بعدالة أحكام المحاكم الأهلية في قضية البحارة أرى إقامة محكمة مخصوصة أفضل لنا وأضمن وأطيب، تشكيلها من خمسة أعضاء ثلاثة إنجليز واثنين وطنيين برياسة سير سكوت!
المستشار القضائي
والعجيب في الأمر، أن السفير البريطاني (لورد كرومر) نسي في تسرعه، النص على القانون الذي يحاكم بمقتضاه المعتدون، وأي الجرائم يعاقب عليها سوى ذكر لفظ الجنايات والجنح، وسمح باختيار ما ينفعه من مواد قانون تحقيق الجنايات.
وفي ذكر العقوبات لم ينص إلا على الإعدام والأشغال الشاقة، وهي أقسى العقوبات وأقصاها، وذكر أنه يطالب بالضمان للمجني عليهم ومخالفًا بذلك كل تشريع إنساني، وكل تشريع يسعى في الضمان للمتهم لا للمجني عليه.» ا.ھ. المذكرة.
وكانت المحكمة المخصوصة سلاحًا ذا حدين، الحد الأول وقع كالمقصلة على أعناق بعض الفلاحين الأبرياء مثل أعراب الجيزة وشهداء دنشواي.
والحد الثاني انقلب حبلًا من مسد وضعته العناية الإلهية في جيد الذي وضع نظام المحكمة المخصوصة فأقصاه عن مصر وأبعده، وهو الذي أنذر ببقاء الاحتلال الإنجليزي إلى الأبد في خطبته الأخيرة (٧ مايو سنة ١٩٠٧ بدار الأوبرا) فظهر أن الأبد الكرومري أو آخر الدهر الذي حدده الغاصب لم يزد على أربعين عامًا يومًا بيوم وساعة بساعة ولله البقاء والدوام.
واليوم وقد تم جلاء الإنجليز عن العاصمتين وأشرقت شمس نهار جديد بعد خمس وستين سنة من احتلال غاشم حق لنا أن نغتبط بتحقيق هذا الجلاء الجزئي الذي اغتبط له جلالة الملك ودولة رئيس الوزراء.
وقد تحررت البلاد فعلًا من حمر الوجوه، وما جلبوه من الشقاء والفاقة والجهل والعذاب باسم المدنية الأوروبية الظافرة وبريطانيا العظمى، وخلصت إلى غير عودة بإذن الله من القانون الأحمر ومن تلك المشاهد الأليمة التي كانت تنفطر لها نفس كل مصري، فشعرنا الآن بأن الأعراض الأولى لداء الاحتلال الذي كان مستعصيًا ومزمنًا وظاهرًا لا دفينًا، ورأينا أن آثار النكبة الإنجليزية التي حلت ببلادنا في ١٣ سبتمبر ١٨٨٢ قد أخذت في الزوال، فلا ضير علينا إذا اعتبرنا هذا الحادث التاريخي الذي وقع بإرادة الله ثم بجهود وكفاح الأمة، بزوغ فجر جديد، وطلوع نهار ضاح سعيد وفاتحة عهد مبارك من العزة القومية والكرامة الوطنية، وأن لا نلقاه بالنكد والطيرة؛ لأن بعض هؤلاء الحمر ما زالوا متشبثين بصحراء القناة تشبث الأخطبوط البحري، وأخيه البري الذي يسميه العامة «بأبي شبت» لتعدد خراطيمه وأطرافه الطفيلية.
ونحن لا ننسى وهم لا يجهلون، أن الجلاء ما زال ناقصًا، ولا بد أن يتم في أقرب وقت الجلاء العاجل عن الأراضي المصرية كافة، بدون قيد ولا شرط فتتحقق أمنية مصر الكبرى، ويصبح الاستقلال كاملًا، بل طبيعيًّا لا تشوبه شائبة.
لأن الأصل في الأمم والأراضي الحرية والجلاء، أما الاحتلال فشذوذ وفساد وانحراف في الطبيعة وفي السياسة، يؤذي المعتدي أضعاف المعتدى عليه.
وإن تكن السياسة البريطانية تبدو لنا مذبذبة مترددة، حائرة، ولهانة بين الاقتداء بالمنظمات الدولية، ومسايرة الأمم المتحدة، وبين التشبث بالمبادئ الاستعمارية البالية المنقرضة، ولكن إنجلترا قد وقعت في الفخ الذي نصبته لها مطامعها، فقد أعلنت نيتها في مايو سنة ١٩٤٦ للجلاء عن بلادنا برًّا وبحرًا وجوًّا، وقد نفذت هذا الجلاء منقوصًا، فأصبح مركزها بين الدول قلقًا مفضوحًا؛ ولذا فإنها لن تبقى طويلًا في حالة القلق والحيرة والذبذبة، ولا بد أن نصل قريبًا إلى التسليم بحقائق الأشياء والخضوع للواقع والاقتناع بأن الاستعمار والاحتلال الحربي قد صارا من آثار العهد البائد والعصر المنقرض، وما علينا إلا أن نطمئن وأن نواصل جهادنا، وإننا واصلون بإذن الله إلى غايتنا وظهور حقنا وعدالة دعوانا أمام الدول وأمام العالم قاطبة.

No comments:

Post a Comment