«ربما تشهد هذه السنة أخيرًا تخلي الصحف عن فكرة معاملة كل الأخبار على أنها منتجات وجميع القراء باعتبارهم مستهلكين.»
جاءت أولى علامات هذا التحول في عام ٢٠١٠ مع إطلاق صحيفتي «تايمز» و«صنداي تايمز» اللندنيتين لجدران الدفع. لم يتطلب هذا تطبيق استراتيجية جديدة، غير أن عالم الصحافة أصبح أخيرًا على استعداد لاعتبار هذه الجدران اختبارًا حقيقيًّا لقدرة الصحف العامة على إقناع الكتلة الحرجة من القراء بدفع المال. (كلا!) ثم في شهر مارس فرضت صحيفة «ذا نيويورك تايمز» رسومًا على القراء الذين تخطوا حدًّا معينًا من مطالعات المقالات (وهو نمط منقول عن صحافة الأخبار المالية، خاصة صحيفة «فاينانشال تايمز»)، وهو الأمر الذي يدر عائدًا ضخمًا. وحديثًا، صدر في النهاية تصريحان الشهر الماضي: حيث طبقت صحيفة «شيكاجو صن تايمز» رسمًا جديدًا على تخطي الحد المسموح به، وقالت صحيفة «منيابوليس ستار تريبيون» إن رسمها الحالي لا بأس به. وهذه الوقائع إجمالًا ضربة قاسمة لفكرة أن الأخبار المنشورة على شبكة الإنترنت يمكن معاملتها على أنها مجرد منتج معروض للبيع، كما كان حال الصحف الورقية.
أصر العاملون بالصحف منذ فترة — وبغضب في بعض الأحيان — على أننا نحن القراء سنضطر قريبًا إلى الدفع مقابل المحتوى (وهو تأكيد صدر بالفعل بهذا الشكل بحلول عام ١٩٩٦). إبان الفترة نفسها، تضاعف المحتوى المجاني المتاح بمعدل عشرة آلاف مثل، ولم يزد المشترون. وفي الواقع، كما أشار بول جراهام: «لم يكن المستهلكون يدفعون فعليًّا مقابل المحتوى، ولم يكن الناشرون أيضًا يبيعونه … فكل شكل تقريبًا من أشكال النشر منظم كما لو أن الوسيلة نفسها هي ما يباع ولا علاقة للمحتوى بالأمر.»
تدعم الإعلانات الإذاعة التجارية لأن أحدًا لم يستطع التوصل إلى طريقة يقيِّد بها الوصول إلى موجات الراديو، وتحقق القنوات التليفزيونية مدفوعة الأجر العائدات لأن شخصًا ما توصل إلى طريقة يقيِّد بها الوصول إلى الكابلات متحدة المحور. والفكرة التي قامت عليها شبكة الإنترنت هي أن يدفع الجميع مقابل البنية التحتية، ثم يبدأ كل شخص في استخدامها. من الواضح أن هذا يتعارض مع اقتصاديات الطباعة، لكن الغريب أن إيمان تلك الصناعة بأن «كل قارئ عميل» لم يهتز إلى حد بعيد بالتجربة التي خاضتها الصحف ذاتها بانتقالها إلى الويب.
كانت الصحيفة المطبوعة باقة واحدة. فالقارئ الذي يريد أخبار الرياضة وجداول أسعار الأسهم فحسب كان يشتري الصحيفة نفسها التي يشتريها قارئ يبغي القراءة عن السياسة المحلية والقومية أو عن وصفات الطعام والأبراج. إلا أنه في كل يوم على شبكة الإنترنت، يفصل هذه الباقة يوميًّا المستخدمون الذين يرسل بعضهم إلى بعض روابط مستقلة، دون الأخذ في الاعتبار ما يكتب بالصفحات الأولى أو أسماء الأقسام أو التصفح محدد الهدف. تؤدي هذه التجزئة إلى حساب غير منتظم لجمهور القراء على الويب، فإذا صنفت القراء حسب الصفحات التي تُطالع في الشهر، فإن المجموعة الأكبر منهم، بين ثلثهم ونصفهم، ستزور صفحة واحدة فقط. وستقرأ مجموعة أقل صفحتين في الشهر، ومجموعة أصغر ثلاث صفحات، وهكذا، وصولًا إلى أنشط القراء، وهو قارئ منفرد في مجموعة خاصة به، ويقرأ عشرات الصفحات في اليوم والمئات في الشهر.
في مقابل سلوك المشاهدين المتغير إلى حد بعيد هذا، يمثل جدار الدفع نظام إما الدفع أو عدم الحصول على شيء مطلقًا: «إذا لم تعطنا المال، فلن نعرض لك أي مواد إعلانية!» في ظل وجود هذا الاختيار، ذهب معظم القراء إلى «عدم الحصول على شيء»؛ ففي اليوم الذي أطلقت فيه صحيفة «التايمز» اللندنية نظام جدار الدفع تقلص جمهور قرائها الرقميين من أضعاف نسبة توزيع طبعاتها إلى كسر ضئيل. ليست هذه مجرد مشكلة متعلقة بجدران الدفع لدى الصحف العامة، وإنما هي المشكلة الكبرى، وهي مشكلة أدركناها على نطاق واسع قبل مطلع القرن ولم تظهر لها قط إجابة مقنعة. الجزء السهل في التعامل مع الأخبار الرقمية على أنها منتج هو الحصول على المال من ٢٪ من جمهور القراء، أما الجزء الصعب فهو خسارة ٩٨٪ من قاعدتك الإعلانية.
***
من أجل فهم ارتباط الصحف لمدة ١٥ عامًا بجدران الدفع، ينبغي فهم مبدأ «يجب أن يدفع الجميع!» ليس على أنه تأكيد اقتصادي فحسب، بل ثقافي أيضًا. وبالرغم من علم الصحفيين كلهم بأن عدد القراء سينهار إذا أسقطت صحيفتهم المحتوى الوارد، مثل عمود «عزيزتي آبي» أو الصفحات الهزلية، فإنهم لم يضطروا فعليًّا إلى معرفة قلة عدد من يقرءون عن مجلس المدينة أو انكسار ماسورة المياه الرئيسية. كان جزء من جاذبية جدار الدفع — حتى مع عدم فعاليته الاقتصادية — يكمن في الحفاظ على حس بأن كلًّا من جامعي الكوبونات ومدمني الأخبار مجرد عميلين، تستطيع الجريدة إشباع دوافعهما بوجه عام، دون الحاجة إلى فهمها بشكل خاص.
كثيرًا ما طُرح الحد المسموح به لقراءة المقالات للمناقشة كما لو كان طريقة جديدة لحمل القراء على الدفع، وكان الرد على ذلك مفاده: «نعم، باستثناء معظمهم.» وعندما نطلق على الحد المسموح به لقراءة المقالات أنه جدار دفع «يسرِّب» أو «يسهل اختراقه»، فإن هذا يقلل من ضخامة التغيير. إن استعارة التسريب المستخدمة توحي بوجود وعاء أغلبه محكم يسمح بمرور كم قليل من المحتويات، لكن الصحيفة التي تنشر مجرد صفحتين في الشهر تعفي غالبية المستخدمين من دفع أي رسوم. وعندما يتحدد الحد المسموح بعشرين صفحة (وهو رقم آخذ سريعًا في أن يصبح اعتياديًّا) فإن الصحيفة تفقد الأمل بذلك حتى في «محاولة» فرض رسوم على ما بين ٨٥٪ و٩٥٪ من قرائها، ولن تقنع سوى أقلية فقط من الأقلية المتبقية بالدفع.
للصحف مصدران أساسيان للدخل: القراء والمعلنون، ويمكنها العمل على مستوى جماهيري أو مخصص لاستهداف كل من هاتين المجموعتين. فالصحيفة اليومية التي تُوزع في المناطق الحضرية هي منتج جماهيري للعملاء (فكثير من القراء يشترون الصحيفة) وللمعلنين (يرى كثير من القراء إعلاناتهم). على النقيض من ذلك، تخدم الرسائل الإخبارية والمجلات محدودة التوزيع مجموعة خاصة من القراء، ومن ثم مجموعة بعينها من المعلنين، كمجلة «فاير شيف» و«مازر إرث نيوز». (لا تتلقى بعض الرسائل الإخبارية أي إعلانات على الإطلاق، كما هو الحال مع «كوكس إلستريتد»، حيث يكون جزء مما يدفعه المستخدم بهدف عدم تلقي إعلانات، أو بالأحرى عدم شعور الناشر بأنه مدين للمعلنين.)
كانت جدران الدفع محاولة للحفاظ على النموذج القديم المتمثل في عدد ضخم من القراء وعدد ضخم من المعلنين بعد التحول للتوزيع الرقمي. ومع قلة عدد القراء الراغبين في الدفع، ومن ثم توجيه الإعلانات لعدد قليل من القراء، حوَّل جدار الدفع بدلًا من ذلك الصحف إلى مشروع تجاري موجه لفئة خاصة من القراء من فئة معينة من المعلنين. فالحد المسموح به لقراءة المقالات يخلق هجينًا غريبًا: سوقًا جماهيريًّا للدعاية والإعلان، ولكنه سوق مخصص للمستخدمين. وكما أشار ديفيد كوهين فإن هذا هو النظير التجاري لنموذج الإذاعة العامة الوطنية، حيث يصل الرعاة إلى كل المستمعين، لكن الدعم المباشر يأتي من المتبرعين. (حتى لا نستخف بالإذاعة العامة الوطنية، تجدر الإشارة إلى أن صحيفة «التايمز» أقنعت تقريبًا واحدًا من كل مائة قارئ من قرائها على الإنترنت بالدفع، وكان معدل نجاح المحطات التابعة للإذاعة العامة الوطنية شخصًا واحدًا من بين كل اثني عشر شخصًا. وتطمح حاليًّا الصحف التي تطبق الحدود المسموح بها للقراءة إلى الوصول إلى قدرة الإذاعة العامة الوطنية في الإقناع.) تشجع جدران الدفع الصحيفة على التركيز على قيمة المحتوى الذي تقدمه، وتشجع الحدود المسموح بها على التركيز على قيمة قرائها.
***
الفكرة التي تقوم عليها الباقة المطبوعة — قليل من كل شيء لكل شخص، مع إضافة من الإعلانات — تجابه سؤالين جديدين: ماذا يريد معظم مستخدمينا الأوفياء؟ وما الذي يحوِّل قراءنا المعتادين إلى مستخدمين أوفياء؟ إليك بعض الأشياء التي تمنع حدوث ذلك: زيادة الإعلانات وزيادة أخبار النميمة وزيادة النشر المتزامن في أكثر من إصدار. وهذه منطقة جديدة لصحف التيار السائد، التي كانت دائمًا تجعل عدد القراء المعيار الرئيسي للعمل وليس الالتزام.
تزيد دائمًا التصرفات الطائشة للمشاهير عدد مشاهدات الصفحات زيادة ضخمة، لكن هؤلاء القراء لن يكونوا قراء أوفياء أبدًا. وفي الوقت نفسه، فإن الذين يبلغون الحد المسموح به ثم يدفعون المال يكونون — دائمًا — أناسًا لا ينظرون إلى الصحيفة على أنها مجرد مصدر عرضي للمقالات الممتعة، بل باعتبارها مؤسسة جوهرية وجودها باستمرار ضروري بصرف النظر عن عروض اليوم.
في إطار مناقشة السبب الذي سيحمل مجموعة فرعية مخلصة من القراء على الدفع من أجل الوصول إلى صحيفة «التايمز»، وصف فليكس سالمون بعض الدوافع التي ذكرها المستخدمون قائلًا: «أنا أحب المنتج وأتفهم العائد المتضمن وأريد أن يستمر إنتاجه وأشعر أن الحفاظ على جودة صحيفة «نيويورك تايمز» أمر بالغ الأهمية للبلد كله.» حاليًّا، وربما من الآن فصاعدًا، يُتوقع أن يحقق أهم القراء نتائج مرتفعة بشكل متفاوت على مؤشر وفاء الجمهور للصحف (كما في القول: «معاذ الله أن تختفي صحيفة «صن-تايمز» وتتوقف عن مراقبة رجال السياسة!»)
دائمًا ما كان الأفراد الذين يفكرون بهذا الأسلوب يمثلون أقلية من القراء، وهي حقيقة تخفيها الباقات المطبوعة، لكن تظهرها جدران الدفع بشكل صادم. عندما تتخلى الصحيفة عن استراتيجية جدار الدفع التقليدية، فإنها بذلك تفقد الأمل في ترويج الأخبار في صفقة بسيطة. بل يجب أن تروق أيضًا للبواعث غير المادية وغير التجارية لقرائها: كالولاء والعرفان بالجميل والإخلاص للرسالة والشعور بالارتباط مع الصحيفة والإحساس بدافع قوي للحفاظ عليها باعتبارها مؤسسة لا عملًا تجاريًّا.
***
تجري حاليًّا تجربة الحدود المسموح بها للقراءة على نطاق واسع في صحف المدن الكبرى: مثل نيويورك وشيكاجو ومنيابوليس. مع ذلك تختلف معظم الصحف عن صحيفة «ستار تريبيون» التي تصدر في منيابوليس، ويشبه معظمها صحيفة «سبرينجفيلد ريبورتر»، وهي صحف يصل توزيعها إلى ٢٠ ألفًا أو أقل، ويتكون معظمهما من محتوى تشتريه من وكالة «أسوشيتد برس» و«يونايتد ميديا». ربما لا تحقق هذه الصحف نتائج جيدة على مؤشر ارتباط الجمهور بالصحف، لأنها تنتج كمًّا قليلًا للغاية من المحتوى الأصلي، وربما لا تجد الحدود المسموح بها للقراءة مجدية ماليًّا، لأن عُشر جمهور قرائها الأكثر ارتباطًا بها وولاءً لها يُقدرون بالعشرات لا بالآلاف.
من ناحية أخرى، تعد التقارير المحلية تقريبًا هي النوع الوحيد للمحتوى الذي تكون الصحف المحلية مصدره الأوحد، لذا يمكن أيضًا تصور دائرة معززة لبعض الصحف الصغيرة على الأقل، حيث تشترك مجموعة أساسية من المواطنين أصحاب العقول الموجهة نحو إفادة المجتمع لتمويل الصحيفة في مقابل زيادة التغطية المحلية، على الصعيدين السياسي والمجتمعي. (لا يسعنا التأكيد على مدى أهمية التغطية المجتمعية لصحف القرى الصغيرة، التي تؤدي عادة دورًا أشبه بدور منادي القرية.)
من المبكر للغاية معرفة ما السلوكيات التي سيكافئ بها المستخدمون الأساسيون الجدد الصحف التي يطالعونها أو التي سيطالبونها بها. فربما يبدءون بالمطالبة بتقليل الإعلانات المتطفلة عن التي تصل إلى القراء الذين لا يدفعون مقابلًا. وربما يكافئون الصحف التي تجعل قسم التعليقات التي يشاركون فيها أكثر ملاءمة للحوار (كما فعلت «التايمز» حديثًا). إلا أن أكثر التغيرات جذرية يتمثل في تيقن المستخدمين الذين يدفعون مقابلًا من حصولهم على الأخبار والتحليلات السياسية بقدر أكبر من القارئ العادي.
لم يوجد سوق جماهيري للصحافة النزيهة في هذا البلد قط؛ فقد جرت العادة على وجود سوق جماهيري للإعلانات المطبوعة، مصحوبًا بسوق جماهيري لباقة ورقية من الترفيه والآراء والمعلومات، وكلها مرتبطة باتفاق مؤسسي لدعم قدر بسيط من الصحافة الحقيقية ماليًّا. في مثل هذا السوق الجماهيري، لم يكن هناك وزن كبير لآراء القراء المهتمين بالشئون السياسية، حيث فاقهم عددًا المطالعون للأبراج. كان هذا ملائمًا جدًّا للمعلنين؛ فهم يفضلون دائمًا وجهة النظر السياسية الوسطية التي لا تتخذ موقفًا ما، حتى لا ينفروا العملاء المحتملين. ولكن، عندما يكون القراء المهتمون بالسياسة هم القراء الوحيدين الذين يدفعون المال، فإن رأيهم سيصبح أكثر أهمية، وعلى نحو سيتناقض أحيانًا مع رغبات المعلنين في تغطية لا تثير إساءة أو خلافًا.
سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى يؤثر الثقل الاقتصادي لهؤلاء المستخدمين على الشكل التنظيمي للصحيفة، لكن رويدًا رويدًا يلاحق الشكل التمويل. وفي الوقت الحالي على الأقل، تعني التجربة الواعدة في مجال دعم المستخدم التخلي عن الكم لمصلحة الشغف، ولعل هذه السنة هي التي تدرك فيها الصحف كيف تكافئ أكثر الأشخاص التزامًا باستمرارها على المدى الطويل.
Newspapers, Paywalls, and Core Users by Clay Shirky. January 4, 2012.
No comments:
Post a Comment