Saturday, February 8, 2014

كارل زيمر : وتواصل الجينومات انكماشها


إليكم بعض الأرقام المتعلقة بالدي إن إيه (الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين)، بعضها كبير، وبعضها صغير جدًّا.
يشتمل الجينوم البشري على نحو ٣٫٢ مليارات زوج قاعدي. وفي العام الماضي، طبع علماء بجامعة ليستر تسلسله في ١٣٠ مجلدًا عملاقًا بحجم المراجع لعرضها في متحف. ويستغرق قراءة هذه المجلدات من البداية للنهاية قرنًا من الزمان تقريبًا.
يتألف الجين الطبيعي من بضعة آلاف قاعدة. ويحتوي الجينوم البشري على قرابة ٢١ ألف جين مشفِّر للبروتين. وثمة جينات أخرى ضمن الجينوم البشري تشفِّر جزيئات تُعرف بالآر إن إيه (الحمض النووي الريبي)، إلا أن عدد جزيئات الآر إن إيه المفيدة فعلًا في الخلية محل نقاش محتدم. فثمة جزء كبير من الجينوم البشري يتألَّف من جينات لا تشفِّر البروتين ولا الآر إن إيه. وأكثره (ربما معظمه) يتألف من جينات ميتة وتسلسلات من الدي إن إيه شبيهة بالطفيليات لا تفعل شيئًا يُذكَر عدا استنساخ نفسها.
ومثلما كتبتُ مؤخرًا في صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن ٣٫٢ مليارات زوج قاعدي و٢١ ألف جين ليسوا متطلبات ضرورية لبقاء الكائن على قيد الحياة. فبكتيريا إي كولاي تبلي بلاءً حسنًا، وجينومها مكوَّن من نحو ٤٫٦ ملايين زوج قاعدي؛ أي ٠٫١٤٪ من حجم جينومنا. ويمتلك ذلك الميكروب — حسب سلالته — نحو ٤١٠٠ جين بروتيني؛ أي نحو خُمس عدد الجينات المشفِّرة للبروتين التي نحملها. فيرجع ارتفاع نسبة الجينات بالنسبة إلى حجم الجينوم لدى بكتيريا إي كولاي إلى تركيبتها الجينية المجردة الكفء. فمعدل انتشار الطفرات التي تقتلع الدي إن إيه غير العامل أسرع كثيرًا لدى الميكروبات من معدل انتشارها لدى الحيوانات.
وقد ثبت أن إي كولاي عملاقة بدورها — من الناحية الجينية — مقارنةً ببعض الأنواع الأخرى. فكلما استكشف العلماء عالم الميكروبات أكثر، وجدوا أنواعًا بجينوم أصغر. فقد كتبتُ في العمود الذي نُشِر لي في «تايمز» عن جينوم متناهي الصغر حقق الرقم القياسي، يخص ميكروبًا يُدعَى «ترمبلايا». فجينومه مكون من ١٣٩ ألف زوج قاعدي لا أكثر؛ أي ٠٫٠٠٤٪ من حجم جينومنا. ويمكنك أن تطبع جينومه كله في كتاب رشيق واحد ورقي الغلاف بحجم الجيب. ويتضمن ذاك الجينوم الأنيق ١٢٠ جينًا مشفِّرًا للبروتين لا أكثر؛ أي ٠٫٦٪ من مجموعة الجينات المشفِّرة للبروتينات لدينا.
كلما كتبت عن تلك الكائنات المحطمة للأرقام القياسية، أحاول أن أشدد على أنها تحطم الأرقام القياسية الحالية فقط. فالترمبلايا لديه أصغر جينوم «معروف»، أو — بمعنى أصح — أصغر جينوم كان معروفًا الشهر الماضي.
هذا الشهر وصف جوردون بينيت ونانسي موران في مجلة «جينوم بيولوجي آند إفولوشن» ميكروبًا جديدًا حطَّم الرقم القياسي، يُدعَى «ناسويا دلتوسيفالينيكولا». فجينومه يتألف من ١١٢ ألف زوج قاعدي فحسب؛ وكأنك عند قراءته تتناول الرواية القصيرة السابقة — رواية جينوم ترمبلايا — وتقتطع منها الفصل الأخير. ومن المفارقات أن ناسويا يحشد داخل الدي إن إيه الخاص به جينات «أكثر» من ترمبلايا، ١٣٧ جينًا مشفِّرًا للبروتينات، حسب تقدير بينيت وموران.
المدهش حقًّا فيما يتعلق بكل محطمي الأرقام القياسية في صغر الجينومات الحاليين والسابقين هو أنها جميعًا تعيش في مكمن إيكولوجي واحد عجيب؛ فكلها بلا استثناء موجودة داخل الحشرات التي تتغذى على النباتات. فترمبلايا يعيش داخل البق الدقيقي — على سبيل المثال — بينما يعيش ناسويا داخل نطاطات الأوراق (ماكروستيلس كوادريلينياتس).
تقوم تلك الميكروبات — داخل الأجساد المضيفة — بتفاعلات كيميائية مع الغذاء الذي تأكله الحشرات. فالحشرات تتغذى على النسغ وسوائل أخرى تستمدها من النباتات، لا تحتوي إلا على عناصر غذائية قليلة. ولكن البكتيريا يمكنها استخدام المركَّبات العائمة في تلك السوائل لكي تكوِّن أحماضًا أمينية، يمكن للحشرات أن تصنع منها بروتينات.
وتحمل نطاطات الأوراق وحشرة الزيز والقناصة (شارب شوتر)، وحشرات أخرى مشابهة أشكالًا مماثلة من البكتيريا المجرَّدة ذاتها. وقد وجد بينيت وموران — عن طريق رسم شجرة تطورها — أن الحشرات دخلت في علاقة تعايشية مع تلك الميكروبات منذ ما يربو عن ٢٦٠ مليون سنة. وقد نسختُ شجرتها أدناه لمن يرغبون في الحصول على مزيد من التفاصيل الشائقة. والخطوط الزرقاء تظهر ناسويا وسلالات من الميكروبات ذات صلة به. وقد حصلت الحشرات أيضًا على نوع جديد من البكتيريا، يُعرَف باسم سولشيا. هذان الميكروبان تقاسما معًا العمل لملايين السنين (في بعض الحشرات انضمت الفطريات إلى الركب أيضًا).
بدأ أسلاف ناسويا حياتهم ميكروباتٍ حرةً ذات جينومات تضاهي جينومات إي كولاي. ولكنها ما إن دخلت جسد المضيف، حتى تمكَّنت من التخلص من الدي إن إيه دون أن تدفع ثمنًا. فقد منحتها الحشرات سكنًا مستقرًّا؛ إذ بنت أعضاءً خاصة لإيوائها، حتى إنها ورَّثت البكتيريا لذريتها. واستبعدت البكتيريا جينات كثيرة كانت لتبدو ضرورية في غير تلك الحالة، مثل عدد من الجينات ذات الصلة بتوليد الطاقة. فكل ما عليها فعله هو مواصلة تقديم خدمة معينة، بتصنيع بعض الأحماض الأمينية.
ناسويا هو حامل الرقم القياسي الآن، ولكن المرجح أن ذلك لن يدوم طويلًا. فما زال ثمة أنواع أخرى كثيرة من الحشرات لم تخضع للدراسة بعد. فقد طلبت موران من جون مكاتشن من جامعة مونتانا إجراء بعض الحسابات التقريبية من أجل معرفة مدى الصغر الذي قد تبلغه جينومات تلك الكائنات المتعايشة. فجميع الميكروبات المعروفة المتعايشة مع الحشرات تتشارك في ٨٢ جينًا. ومن المحتمل أن تكون تلك الجينات لازمة قطعًا لبقاء الميكروبات المتعايشة. ولكن لا بد لها أيضًا من أن تقدم نفعًا لمضيفها، وإلا فسيتخلص منها على الأرجح. ويتطلَّب تصنيع حمض أميني واحد ١١ جينًا على الأقل. ويقدر مكاتشن وموران أن تلك الجينات الثلاثة والتسعين يمكن أن يسعها جينوم لا يزيد عن ٧٠ ألف زوج قاعدي.
الغريب أن تلك البكتيريا تتيح لنا التطرق إلى أحد أبسط الأسئلة المتعلقة بالحياة: ما أبسط حد يمكن أن تبلغه الحياة مع بقاء الكائن على قيدها؟ بينما قد يعتبر مثل ذلك البحث مضيعة للوقت من منظور أولئك الذين يتكسَّبون من السخرية من العلم، فإن دراسة تلك الكائنات المجردة تمثل كذلك أقصى حد من العملية يمكن للعلوم أن تبلغه. فنطاطات الأوراق التي تؤوي ناسويا — على سبيل المثال — تمثل كابوسًا بالنسبة إلى المزارعين؛ إذ تتلف مجموعة كبيرة من الخضراوات عن طريق نشر الفطريات والبكتيريا. إلا أنها ستكون عديمة الحيلة دون سكانها فائقي البساطة. فإذا أمكننا أن نفهم كيفية بقائهم على قيد الحياة بمثل ذلك الجينوم متناهي الصغر، فلربما أمكننا منعها من تمكين مضيفيها.



And the Genomes Keep Shrinking … by Carl Zimmer. The Loom. August 23, 2013.

No comments:

Post a Comment