الفتيات يرثن أشياء كثيرة من آبائهن، ولكن ثمة قلة مختارة منهن يرثن شيئًا غير معتاد؛ كروموسوم واي (Y). فالطبيعي أن تحمل النساء كروموسومي إكس (X)، بينما يحمل الرجال كروموسوم إكس وكروموسوم واي، ولكنَّ بعض الأشخاص ذوي الكروموسومات إكس واي (XY) يولَدون بأعضاء تناسلية أنثوية ورحم. وفي جميع الحالات تقريبًا ينشأ هؤلاء باعتبارهم فتيات منذ الميلاد، ولا يتجلَّى كروموسوم واي الخفي لديهم سوى في مرحلة البلوغ؛ ذلك لأن المبيضين لن يعملا، ودون هذين العضوين اللذين يوفران سيلًا من الهرمونات، لن يحدث الحيض ولن ينمو شعر الجسد أو الثديان من تلقاء أنفسهم. كما يعاني هؤلاء من العقم.
تلك الحالة — المعروفة بمتلازمة سواير — كثيرًا ما تنجم عن تغيرات تحدث في جين إس آر واي (SRY) — وهو جين على كروموسوم واي يمثل مفتاح الذكورة الرئيسي، ويعني اسمه «منطقة تحديد الجنس على كروموسوم واي». فالأجنَّة البشرية تصير إناثًا بصورة تلقائية، ولكن جين إس آر واي يحوِّلها عن ذلك المسار. فهو يشغِّل جينات كثيرة تحوِّل الحرف التناسلي لدى الجنين إلى خصيتين عوضًا عن المبيضين. ولكن إس آر واي قد يتعرض لطفرات تعطِّله عن دوره، وتمنعه من إطلاق برنامج تكوين الذكورة. نتيجة لذلك، تصير الأجنة فتيات رغم حملها كروموسوم واي.
ولكن في بعض الأحيان، يحمل الآباء وبناتهن نسخًا «متطابقة» من إس آر واي. لكن في حين يصير هو ذكرًا عاديًّا ولودًا، تصير هي أنثى عاقرًا. فكيف يحدث ذلك؟
مايكل وايس من جامعة كيس ويسترن ريزيرف لديه الجواب. فقد درس فريقه — بقيادة طالب الدراسات العليا ين-شان تشين — عدة أزواج من الآباء والبنات ذوي كروموسومات واي المتطابقة، وأثبتوا أن كل ما هنالك هو أن إس آر واي ليس بمفتاح التشغيل بالغ القوة. فهو لا يحول بوضوح بين وضع التشغيل (ذكر) وإيقاف التشغيل (أنثى)، وإنما يقوم بما يكفي «بالكاد» لدفع الجنين في مسار الذكورة، ومن السهولة بمكان أن يتأثر بالبيئة المحيطة أو بجينات أخرى. ونتائجهم تثبت أن تحول الجنين إلى ذكر حدث غير مؤكد إلى حدٍّ مدهش.
ميليسا ويلسون سييرز من جامعة بيركلي — التي تدرس كروموسومات الجنس ولم تكن طرفًا في الدراسة التي أجراها وايس — تشبِّه إس آر واي بمفتاح خفض شدة الإضاءة. ففي وضع «السطوع» يدفع الجنين في اتجاه الذكورة، وفي الأوضاع الأقل سطوعًا يعجز عن تنشيط الجينات الأخرى؛ مما يؤدي إلى ظهور صفات أنثوية. وتشرح سييرز الأمر قائلة: «في حالة البشر، عادةً لا يكون مفتاح خفض شدة الإضاءة مضبوطًا على وضع «السطوع» تمامًا؛ لذا تكون التغيرات الطفيفة كافية للتأثير على عملية تكوُّن الغدد التناسلية.»
تلك ليست فكرة جديدة، على حد قول روبن لافيل بادج من المعهد الوطني للبحوث الطبية، الذي كان أول من اكتشف إس آر واي. فمنذ تسعينيات القرن العشرين، أثبتت الدراسات التي أُجريت على الفئران أن نشاط إس آر واي بالكاد يفوق الحد المطلوب لتكوين الخصيتين. وقد أوجز بيتر كوبمان تلك الفكرة عام ٢٠٠٧، قائلًا: «الأمر الواضح هو أنه عوضًا عن الجين القوي الذي قد يتوقع المرء أن يكون عمادًا للنمو الجنسي لدى الذكور، فإن وظيفة إس آر واي مثل ريشة في مهب الريح.»
يقول لافيل بادج: «لكن على الرغم من وجود دلائل على أن ذلك الأمر يسري أيضًا على البشر، لم يكن من الممكن إثبات ذلك؛ نظرًا لصعوبة دراسة الغدد الجنسية البشرية في مراحلها المبكرة.» هذا ما فعله وايس الآن، وهو يقول: إنها كانت تجربة ضرورية. فالجين إس آر واي يعمل بصورة مختلفة تمامًا لدى القوارض عن البشر، لذا «لم يكن ثمة سبب يحدو بنا إلى اعتقاد أن تلك النتيجة تسري على البشر. والآن صرنا نعتقد ذلك.»
ينتج إس آر واي بروتينًا يحمل الاسم ذاته، وهو البروتين الذي ينشِّط الجينات الأخرى المكونة للذكورة. وقد أثبت فريق وايس أن الأزواج المكونة من الآباء وبناتهم ذوي كروموسومات إكس واي يحملون طفرتين من جين إس آر واي لا تحدثان تغييرًا كبيرًا في قدرات البروتين، وإنما تغيِّران موقعه.
مثل سائر البروتينات الأخرى، يُصنَع إس آر واي في السيتوبلازم — السائل الغليظ الذي يمثل الجزء الأكبر من الخلية. ولكنه حتى ينشِّط الجينات الأخرى، لا بد أن يدخل النواة؛ الحجرة المركزية مقر الحمض النووي دي إن إيه. ولكي يفعل ذلك، فإنه يلتصق بالبروتينات الأخرى التي تهرِّبه إلى داخل النواة وخارجها. ويمكن أن تخل الطفرات التي تصيب إس آر واي بتوازن تلك الرحلات بحيث لا يمكن — على سبيل المثال — إدخاله النواة بفعالية. فعندما يحدث ذلك، لا يستطيع تأدية دوره بفعالية، وينخفض نشاط الجينات التابعة له إلى النصف.
في بعض الحالات لا يُحدث ذلك التغير فرقًا، وتظل الجينات التابعة نشطة بما يكفي لإطلاق برنامج تكوين الذكورة. وفي حالات أخرى، لا تظل نشطة.
لذا؛ يتمكن الآباء من أن يصيروا ذكورًا وتتمكن البنات من أن يصرن إناثًا، على الرغم من اشتراكهم في النسخة ذاتها من جين إس آر واي. العملية كلها محفوفة بالمخاطر، ويمكن لعوامل عشوائية مثل الجينات أو الظروف البيئية أن تدفعها في أي من الاتجاهين؛ لينتج عن ذلك إما ذكر ولود أو أنثى عاقر.
ذلك أمر عجيب جدًّا. فثمة جينات رئيسية كثيرة تضطلع بأدوار محورية في تطورنا؛ إذ تتحكم في نمو العينين والأطراف وغير ذلك. وإذا لم تعمل تلك الجينات بصورة سليمة، فقد ينتج عنها عواقب وخيمة. لذا ينبغي أن تكون ثابتة بصورة استثنائية، لتفرض الوضع الراهن على جميع الطفرات والظروف البيئية عدا أكثرها شدة. فينبغي أن يحدث اختلاف في النشاط يفوق الضِّعف بكثير حتى تغير وظيفتها. ويقول وايس: «يجب أن نتوقع رؤية معاملات قدرها ٥٠ ضِعفًا أو أكثر. فتلك المفاتيح الرئيسية يفترض بها أن تكون مثبَّتة بإحكام. ولا يُفترض أن تكون هشة إلى هذا الحد.»
فلماذا يعمل الجين إس آر واي استنادًا إلى ذلك الوضع المتذبذب؟ ولماذا يكون لديه وضع يمكن أن يتسبب في الإصابة بالعقم بمنتهى السهولة واليسر؟ يقول وايس: إن ذلك من أجل التنوع. فهو يرى أن تقلبات إس آر واي تسفر عن تنوع واسع في نطاق الخصيتين الناشئتين، وكذلك تنوع كبير في كمية التستوستيرون الذي تنتجانه. يؤثر ذلك الهرمون على سلوكنا، بما في ذلك جوانب كثيرة من حياتنا الاجتماعية. فمع المخاطرة بمجيء أنثى عاقر مختلطة الكروموسومات من حين لآخر، يؤدي تقلقل مفتاح التشغيل الرئيسي إلى تنوع كبير في أدمغة الذكور؛ مما قد ينشئ مجتمعًا أفضل أداءً. فيشير وايس إلى أنه: «لا يمكنك تكوين جماعة كل ذكورها مسيطرون.»
إنها فكرة قائمة على التكهُّنات إلى حد كبير، وويلسون سييرز ليست مقتنعة بها. فهي تقول: إن التفسير الأبسط بكثير هو أن كروموسوم واي معرض بدرجة كبيرة إلى حدوث طفرات به ذات آثار ضارة ضعيفة. أما الكروموسومات الأخرى فتأتي في أزواج، ويمكنها أن تتبادل أجزاءً من الحمض النووي الخاص بها، في عملية تُجمِّع الطفرات الضارة في مكان واحد، وتتيح التخلص منها بسهولة أكبر عن طريق الانتخاب الطبيعي. كروموسوم واي لا يتمتع بتلك الميزة لأنه وحيد، وليس لديه شيء يتبادل معه أجزاء الحمض النووي. فهو يراكم الطفرات الضارة بمعدل أسرع؛ مما يجعله مكانًا خطرًا لوجود مفتاح التشغيل الرئيسي.
No comments:
Post a Comment