أقول «عندنا» وأعني بذلك ذوات الحجاب الإجباري وذوات الحجاب الاختياري معًا؛ لأن العدوى موجودة في كل شيء، في الخير كما في الشر، في التقدم كما في التخلف، فإذا ما برز نور معنوي في نقطة معينة اخترق شعاعه كل فكر أوجدته الظروف في مستواه، وعبثًا نسدل الحُجُبَ على الأبصار إذا كانت البصائر متنبِّهة، وكانت النفس على استعداد لقبول الراقي من التأثيرات، فلئن تقرر وجود حركة نسائية بين السافرات؛ تحتَّم وجودها بين المحجوبات وغمرتهن جميعًا موجتها المحيية، وإن كانت في فريق أظهر أثرًا منها في الفريق الآخر.
قضت باحثة البادية بعد سكوت سنوات أربع فكان موتها أفصح مقالة وأبلغ عظة، وقد كشف ذلك الظرف المحزن عمَّا لها من مكانة رفيعة في نفس الجمهور، ودلَّ على درجة الارتقاء العالية التي يسع المرأة الوطنية أن ترمي إليها.
لا أدري، هل نالت من الأذهان والقلوب فصولُ «الباحثة» وآراؤها وما كانت تبغيه من الإصلاح في أيام جهدها مثلما نالت بعد رحيلها؟ إنه ما طار نعيها حتى انتشرت معه الكآبة وعمَّ الأسف، فسُوِّدت أعمدة الصحف وكثرت فصول الثناء على اجتهادها وفضلها، وتعددت قصائد البكاء على شبابها، وقد اشترك في ذلك الرجل والمرأة، والمحمدي والعيسوي، والشاعر والثائر، والصحافي والأديب، حتى الذي لم يكن ليُعنَى بالصفحة النسائية من الأدب العصري وجد كلمة أسف يضيفها إلى كلمات أسف كثيرات سبقتها.
ذلك لأن مثل هذه الأفراد النادرة لا يخص أسرته فقط، وبموته إنما تكون أمته خاسرة، لما صمت صوت الباحثة للمرة الأخيرة أحس الجمهور بأن ذلك الصوت كان شجيًّا، وبأن القلم الذي انتزعته مخالب الرَّدَى كان موسيقيًّا، أليس من خصائص البشر أن لا يفطنوا إلى جمال شيء وندورته إلا بعد الرحيل الذي لا رجوع وراءه؟
ولم يقتصر على فصول الصحف وقصائد الشعراء، بل عُنِيَ النساء بإقامة حفلة تأبين من جهتهن، بينما كان الرجال يهتمون بحفلة الرجال، فسبق هؤلاء وأقاموا حفلة الأربعين وكانت حفلة مهيبة جليلة، فرأت اللجنة النسائية المتشكلة برئاسة السيدة المُثلَى حرم شعراوي باشا أن تؤجل عملها فتعقد الاجتماع النسائي بمناسبة مرور عام على وفاة الراحلة الكريمة، وأن نحاول في خلال هذا العام إيجاد أثر لذكرها الطيب في المدرسة التي تربَّت فيها، ومجرد تفكير السيدات بهذا وذاك واهتمامهن بكيفية تنفيذ ما حَسُنَ في نظرهن دليلٌ على تغيير كبير جارٍ في النفوس.
أما اجتماع الرجال فقد حضره كل عالم ووجيه وكبير، ولو كان المؤبِّنون من النشء الجديد القائل بسفور المرأة وتحريرها لرأينا الأمر طبيعيًّا، ولكنهم كان أكثرهم — إن لم يكن كلهم — من ذوي العمائم والعلماء من الشيوخ، ومن المطربشين الذين هم أقرب إلى حزب «المحافظين» منهم إلى أي حزب آخر، وقد فاه أحد الخطباء بهذه الجملة الكبيرة المعنى: «أيها الرجال قولوا للنساء إننا نكرم النساء الصالحات كما نكرم أعاظم الرجال.»
ولكن كيف يذهلنا ذلك وقد كان دائمًا أهل الذكاء والنبوغ مفيدين بمماتهم كما في حياتهم! فإذا ما أسبلت منهم الجفون على العيون الجامدة فكأنَّ النفس تنبِّهُ القوم باعثة فيهم اهتمامًا وتحمُّسًا لما جاهدوا من أجله طويلًا، فهم بالشمعة التي يشتد لمعانها ساعة الانطفاء شبيهون! لمَّا قامت نساء الغرب بحركتهن لم يؤيِّدهُنَّ فيها من الرجال إلا آحاد وقد هزأت منهن مجاميع، واليوم وقد مرت أعوام الجهاد والألم والثبات فقد استلمن إلى مصلحتهن أعلى أصوات أمريكا وأوربا وأكثرها فعلًا وأعمقها تأثيرًا، أما عندنا فإذا ذكرت الحركة النسائية ذكرنا أن الرجل كان مُوجِدُها ومؤيِّدها، وأنه ما زال ساعيًا في تنشيطها، وقد جاءت حفلة الرجال التأبينية أتمَّ مصداق لهذا الإقرار.
الحركة النسائية فى هذا الوقت من واقعآ ذادت بزوغآ.فالمراءة نصف المجتمع لم تعد كلمة بل أنها واقع.فبدون حركات التنوير النسائية .لم يعد للمجتمع نهوض.
ReplyDelete