القصص أقدم فنون الأدب، ومن أكثرها إلى اليوم ذيوعًا وانتشارًا، اعتمدت عليه الكتب المقدسة في الأمم المختلفة لنشر دعوتها وتدعيم رسالتها، وهو لا يزال إلى اليوم أكثر ألوان الأدب إنتاجًا واستهلاكًا، وألوان القصص كلها تستوي في ذلك؛ فالقصة المسرحية، والقصة المرسلة، والقصة الشعرية، والقصة النثرية، والقصة القصيرة، والقصة الطويلة، والقصة الواقعية، والقصة الخيالية، هذه الألوان وما يندرج تحتها أكثر من سائر فنون الأدب ذيوعًا؛ فلا الرسالة، ولا المقامة، ولا الشعر غير القصصي، وما إلى ذلك من فنون الأدب يلقى ما تلقاه القصة من إقبال عليها، وإنتاج لها، هذا ما يلاحظه كل إنسان، فما سره وما علته؟
وقبل أن أتناول هذا السر بالحديث أودُّ أن أذكر أن ما قلته عن أدب القصة يصدق في عهود رُقي اللغة وازدهارها، كما يصدق في عهود تدهورها وانحلالها. في هذه العهود الأخيرة ترى القصاصين المتجولين يتنقلون من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، ويكادون يحفظون عن ظهر قلب هذا القصص القديم والخيالي، فيرتلونه على الناس، ويثيرون به حماستهم إلى حدٍّ يثير الضحك أحيانًا. وسبب رواج صناعة القصاصين في عهود انحلال اللغة أن قارئيها وكاتبيها يصبحون قلة، وأن الجماهير تتوق إلى سماع القصص الذي يلائم ثقافتهم المحدودة. أما في عهود ازدهار اللغة ورُقيِّها، فإن القصة تصبح فنًّا جميلًا بكل ما تنطوي عليه كلمة الفن الجميل من معنى، ويزداد عدد القارئين الذين يقدِّرون هذا الفن الجميل، ثم لا تكون هناك حاجة للقصاصين المتجولين إلا في أوساط محدودة.
ونتحدث الآن عن السر في ذيوع القصص وانتشاره أكثر من غيره من سائر فنون الأدب. وحسبك لتعلم مبلغ هذا الذيوع أن تعرف أن ما يُطبَع ويُوزَّع من القصص في فرنسا يعادل قصة كل يوم، أي أكثر من ثلاثمائة وستين قصة في السنة، وأن ثلاثة أرباع هذا العدد قليل الحظ من الطرافة والدقة الفنية؛ يبقى لدينا مائة قصة تقريبًا لها حظ محمود من الطرافة والامتياز، وليس هناك بين فنون الأدب جميعًا ما له هذا الحظ الذي للقصة، فلا الرسائل، ولا المقامات، ولا النقد الأدبي نفسه ذائع هذا الذيوع، منتشر هذا الانتشار، وهذا في رأيي طبيعي لاعتبارات عدة ليس ضروريًّا أن نُعَدِّدها جميعًا، وحسبنا أن نذكر أهمها وأكثرها بروزًا أمام النظر.
وفي مقدمة هذه الأسباب أن للناس في طفولتهم وصباهم وشبابهم ميلًا واضحًا للاستماع إلى القصص ولقراءته، يستوي في ذلك القصص الواقعي، والقصص الخيالي، وتستوي فيه الأساطير والخرافة، مع فارق في الميل يختلف باختلاف السن. وأنت حين ترى الأم أو الجدة تقول لأطفالها أنها ستقص عليهم قصصًا طريفة، تراهم يهرعون إليها ويجلسون حولها، ويُمضون الوقت الطويل في الاستماع لها حتى يغلب بعضَهم النوم. فإذا تقدم هؤلاء الأطفال إلى الصبا وتعلموا القراءة بدءوا يقتنون لأنفسهم من هذه القصص ما يقضون في قراءته الساعات والأيام، ويظل ذلك دأبهم زمنًا غير قليل. أذكر أن المرحوم خليل بك صادق صاحب قصة الشعب كان يصدر قصصًا مترجمة كل أسبوع باسم قصص الشعب، فكان لها من الرواج بين الشبان ما لم يكن لنوع آخر من الكتب؛ لأن نفوس الشباب تظل تهوي إلى القصص حتى يتخصصوا في علم أو في فن بذاته، فلا يسمح لهم وقتهم بعد ذلك لمطالعة القصص. وهذا بطبيعة الحال مما يدعو إلى رواج القصة وانتشارها، ويدعو مُن أوتوا موهبة كتابتها إلى الإنتاج فيها، فإذا بلغت هذه الموهبة عندهم حدَّ الإلهام والإتقان فأقبل الناس على ما يكتبون، زادهم ذلك تشجيعًا على المُضي في الكتابة حتى تصبح مهنة لهم يعملون فيها طول حياتهم.
ومن أسباب ذيوع القصة ووفرة إنتاجها كذلك أنها تحتمل أكثر من سائر فنون الأدب البلوغ بالأسلوب غاية الكمال، وتتناول الموضوعات المختلفة بهذا الأسلوب البارع؛ فالوصف والتحليل، وتصوير الحياة، ما كان منها عاديًّا سلسًا، وما كان شاذًّا غير مألوف، وما كان من قبيل الواقع أو من قبيل الخرافة. وهي تتناول ذلك كله، وتتناول ما إليه من مثله في يُسر وسهولة لا تتأتيان لغير القصة من فنون الأدب، فأنت ترى فيها صورة النهار والليل، وصورة الصخور والمطر، وصورة الصحة والمرض، وصورة المرح الطروب، والأسى الفاجع، وترى صورًا من آمال الناس وآلامهم مرسومة بما لا مزيد عليه من دقة وإبداع. والقصة مع ذلك مسرح للأفكار والتأملات التي لا ترهق الذهن، ولا يعيى بها التصور، وأنت لا تجد هذا الفيض من الصور والتأملات التي تقع في متناول كل قارئ إلا في القصة، طويلة كانت أو قصيرة، واقعية كانت أو خيالية.
وفي هذا التنوع رياضة للذهن تستهوي القارئ، وتزيده تعلقًا بما يجد فيه هذه الرياضة، هذا إذا كانت القصة من النوع الواقعي الذي يُصور الحياة بآمالها وآلامها، فأما إن كانت القصة خيالية، أو كانت من نوع الخرافة، أو كانت تبعث الأساطير القديمة إلى الحياة، فإنها تنقل القارئ معها إلى الأجواء التي حرص المؤلف على بعثها، فإذا كان المؤلف بارعًا كان هذا الانتقال إلى الأجواء المختلفة يبعث سرورًا للنفس قَلَّ أن يعدله سرور.
وهناك إلى جانب ما أشرت إليه من ألوان القصص لون آخر ليس أقلها إثارة للنفس، تلك هي القصة التاريخية، وهي التراجم التي يصور بها المؤلف حياة من تركوا في سجل الحياة أثرًا باقيًا. هذه القصة التاريخية وهذه التراجم إذا كانت دقيقة حملت إلى النفس صورًا من حياة الإنسانية كثيرًا ما تزال باقية الأثر في وجودنا الإنساني، وهي بهذه المثابة تكون أبقى في النفس من كتب التاريخ، ومن التراجم الجافة.
هذه هي طائفة من الأسباب التي جعلت القصة أكثر فنون الأدب نتاجًا، وجعلت الإقبال عليها أكثر من الإقبال على غيرها من سائر تلك الفنون. والقصة العربية ما تزال مع ذلك أقل من غيرها عرضًا وطلبًا؛ لأن الكتَّاب لم يستوفوا حريتهم القصصية إلا من عهد قريب، على أن البشائر تدلنا على أنَّا نسير في الطريق الذي سار العرب فيه أيام كانت الحضارة الإسلامية تسود العالم، ونسير في الطريق الذي تسير فيه القصة في أكثر بلاد العالم حضارة اليوم. وأكبر رجائنا أن ينهض هذا الفن الممتاز من فنون الأدب، وأن يبلغ في إنتاجه، وفي الإقبال عليه ما بلغه في أرقى الأمم حضارة وحرية.
No comments:
Post a Comment