سألنى أحد أفراد الفرقة الناجية: هل المطلوب بناء سفينة نوح لنركب فيها جميعا حين يأتى الطوفان، وتأخذنا إلى الدولة الجديدة التى نريد تشييدها؟ قلت: لا، كان هذا النموذج صالحاً، ربما، فى العهد القديم. أما اليوم فلن يتركك الأشرار تبنى سفينة نوح إن حاولت. لن يكتفوا مثل قوم نوح بالسخرية منك ومما تفعل، بل سيقومون باللازم كى لا تكتمل سفينتك أبدا: يمنعون عنك الخشب، يثقبونها، يدسون عليك من ينقلب ضدك ويشتت جهدك، يسجلون محادثاتك مع العمال ويذيعونها فى التليفزيون على أنها تعليمات تخريبية، وربما- إن واصلت البناء- يعتقلونك أنت والحيوانات والطيور التى تجمعها. هل قلت يعتقلونك؟ عفوا، قصدت أنهم سيقبضون عليك ويحيلونك للقضاء بتهمة الإساءة للوطن وتشويه صورته والإيحاء بأن هناك حاجة للنجاة منه.
لا يبنين أحد منكم سفينة نوح فقد راح زمانها.
المطلوب، فى رأيى، هو بناء قوارب نجاة كثيرة ومتعددة وتعلم السباحة. لا يمكن لقوم نوح مهما بلغوا من الظلم أن يمنعوا كل القوارب، لأنها وسيلة مواصلات رئيسية فى الحياة العصرية. ولا يمكنهم منع الناس من تعلم السباحة. وحين يأتى الطوفان ستكون القوارب الصغيرة فى مثل فائدة السفينة الكبيرة، إن لم تكن أفضل وأكثر مرونة وسرعة وقدرة على المناورة. قوارب النجاة يمكن أن تكون من الخشب أو المطاط أو الفايبر أو أى مادة أخرى: كل واحد يختار المادة التى يراها مناسبة، دون انتقاد الآخر، أو الحط من شأنه، أو الإصرار على أن قاربه هو الذى سينجو وحده. قد يكون القارب صغيرا لا يتسع إلا لعدة أشخاص، وقد يكون كبيرا يتسع للعشرات. يمكن لقاربك العمل فى صيد السمك أو نقل الناس أو توزيع المواد والسلع أو التنزه، أو الإسعاف، أو أى شىء تختاره. المهم أن يكون لديك قارب، أو تكون جزءا من فريق لديه قارب، بحيث تجد مكانا للنجاة عند الضرورة. ساعتها لن يحتاج الأمر كثيرا من الجهد للتنسيق بين كل هذه القوارب.
المطلوب، فى رأيى، هو بناء قوارب نجاة كثيرة ومتعددة وتعلم السباحة. لا يمكن لقوم نوح مهما بلغوا من الظلم أن يمنعوا كل القوارب
قال عضو الفرقة الناجية إن لديه أسئلة أخرى كثيرة، قلت: انتظر.. بناء قوارب النجاة مهمة رئيسية إن أردنا تحقيق حلمنا والانتقال لعالم جديد، حر وكفء وعادل ويقوم على حكم القانون. لكنها ليست المهمة الوحيدة، بل تتداخل وتتزامن مع مهمتين أخريين أحب التذكير بهما قبل الاسترسال فى كيفية بناء القوارب: المهمة الأولى هى بلورة رؤية متماسكة للأفق الذى نريد الإبحار إليه حين يعلو الماء، بحيث لا نجد أنفسنا مرة أخرى نتخبط وسط الأمواج، يشير فريق منا إلى اليمين، فى حين يصمم الفريق الآخر أنه لن يبحر إلا يسارا.
المهمة الأخرى هى الاستماع المستمر لشكاوى الناس ومخاوفهم وجعلها بوصلة إبحارنا. فنحن لن نجبر الناس على الإبحار معنا فى اتجاه يخافون منه، ولن نخطفهم أو نأخذهم رهائن، حتى لو اعتقدنا أن فى ذلك مصلحتهم. وهمٌ كبيرٌ أن نجعل من أنفسنا أوصياء على غيرنا بحجة العلم. حتى نوح، عليه السلام، (بمناسبة الحديث عن الرسل) دعا الناس ليتبعوه، ولم يجبرهم على ركوب سفينته قسراً أو تخويفاً. الناس وشكاواهم ومخاوفهم هم الدليل الذى يحدد شروط إبحارنا وسرعته.
هذه المهام الثلاث- بلورة الرؤية، وتنظيم أنفسنا، والاستماع للناس- لن تنجز فى شهر ولا فى سنة. فرؤيتنا للمستقبل وللعالم الجديد يجب أن تتجاوز العموميات كالحرية والخبز والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولن تكون هذه الرؤية جاهزة بمجرد أن يكتبها أحدنا، بل ستثير كل فكرة اعتراضات ومناقشات. وهذا طبيعى وضرورى. فهذه الاعتراضات والمناقشات جزء من عملية بلورة رؤية يجمع عليها الناس الذين نظنهم يشاركوننا الحلم العام. وستستغرق وقتا.
وتنظيم أنفسنا، أى بناء قوارب النجاة، سيستغرق وقتاً كذلك. فالتنظيم بحكم تعريفه عمل جماعى، ومن ثم لا يكفى أن أطرح أنا ما أظنه الإجابات النموذجية على أسئلة «كيف ننظم أنفسنا؟»، بل يجب أن يتفق عليها هؤلاء الذين سيضطلعون بتنظيم أنفسهم وغيرهم. وطبيعى أن تختلف الإجابات، ويتفرق الناس ويجتمعون ثانية، ويجربون نماذج ويخطئون فيجربون غيرها، وكل هذا سيستغرق وقتا. حتى الاستماع لشكاوى وهموم الناس وجعلها بوصلة الإبحار سيحتاج وقتاً منا، لأننا لم نتعوده. تعودنا تجاهل الناس باعتبارنا أدرى بمصلحتهم، أو الحديث إليهم شرحاً و«توعية» لا الاستماع لهم. وكى ننتقل من هذا لذاك، وكى نفهم أهمية الاستماع حقيقة، وكى نضبط إيقاع حديثنا وحركتنا على موجتهم، سيتطلب الأمر وقتاً.
وليس فى ذلك مدعاة لليأس أو الاكتئاب، بل للصبر والتخطيط الواقعى البارد. أما المتعجل الذى يصرخ أننا لا نستطيع الانتظار، وأن الطوفان سيدهمنا، وأن ضغط الواقع اليومى لا يطاق، فأقول له قول خاتم الرسل الحقيقيين: «إن المُنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».
No comments:
Post a Comment