المدرسة أحببتها في طفولتي. فالمدرسة تعني الخروج من البيت. البيت ضيق لا يتسع لحركتي. و الشارع واسع طويل بغير بداية و لا نهاية. الناس كثيرون بغير عدد كالنجوم. عواميد النور لا أول لها و لا آخر. السيارات تجري بأقصى سرعة و الترام يسير فوق القضبان يصلصل بالجرس. أبواق السيارات. أصوات الباعة و هم ينادون. دبيب أحذية الناس فوق الأسفلت. إلى جواري يسير أبي يمسك يدي. وقع قدميه في أذني. الخطوة وراء الخطوة ثابتة قوية. رأسه مرفوع. يرتدي بدلة صوفية و ربطة عنق. تقف له الناظرة بإحترام و تقول له يا بيه. أصابعه طويلة ناعمة و أظافره نظيفة مقصوصة. جدتي أصابعها مشققة و أظافرها سوداء. بيتنا مفروش بالسجاجيد. و بيتها أرضه تراب. ترشه بالماء و تفرش الحصيرة الطويلة الممتدة بطول الدار. تضع الوسائد القطنية لأبي و أخيه الأكبر غير الشقيق. أقول له عمي الشيخ. عمتي تجلس على الحصيرة بدون وسادة. يداها مشققتان و أظافرها سوداء. عمي الشيخ يداه ناعمتان و أظافره نظيفة مقصوصة. تعلم في الأزهر و أصبح مُدرِّساً للشريعة يرتدي العمامة.
لماذا لم تعلمي بناتك يا
جدتي مثلما علمتِ الولدين؟ و تشوح جدتي بيدها المعروقة. عندي ست بنات و ليس عندي
مصاريف المدرسة. و يهتف عمي الشيخ من فوق الوسادة. البنت للزواج و البيت. ابنته
زَوَّجها قبل أن تبلغ سن الرشد. لا يناديها بإسمها. يقول لها يا بت. لا يبتسم في
وجهها أبداً.
أبي يناديني بإسمي و يبتسم في وجهي. عمي الشيخ صوته خشن عالِ لا يعرف إلا الشخط. أبي صوته هاديء لا يشخط أبداً. حتى الشحاذة الفقيرة التي تعطيها جدتي بعض أكواز الذرة يبتسم في وجهها و يرد عليها التحية. عمي الشيخ يطردها بصوت خشن: إمشي يا بت!
لم يكن أبي و عمي يتفقان. كل منهما نقيض الآخر. وجه عمي بدا لي كالشيطان. مليء بالشعر و عيناه دائماً غاضبتان. ما إن يراني جالسة في الدار مع أبي و الرجال حتى يقول: لا تجلسي معنا. ليس هذا مكانك. و لا أتحرك من مكاني. تلتقي عيناي بعيني أبي. يبتسم أبي و يقول صوت هاديء, دعها تجلس معنا مثل أخيها. و يصيح عمي. أخوها ولد و هي بنت, و الشريعة تمنع إختلاط البنت بالرجال. و يرد أبي: لا يا فضيلة الشيخ, الشريعة لا تمنع الإختلاط و ابنتي تخرج وحدها كل يوم إلى المدرسة.
أبي يناديني بإسمي و يبتسم في وجهي. عمي الشيخ صوته خشن عالِ لا يعرف إلا الشخط. أبي صوته هاديء لا يشخط أبداً. حتى الشحاذة الفقيرة التي تعطيها جدتي بعض أكواز الذرة يبتسم في وجهها و يرد عليها التحية. عمي الشيخ يطردها بصوت خشن: إمشي يا بت!
لم يكن أبي و عمي يتفقان. كل منهما نقيض الآخر. وجه عمي بدا لي كالشيطان. مليء بالشعر و عيناه دائماً غاضبتان. ما إن يراني جالسة في الدار مع أبي و الرجال حتى يقول: لا تجلسي معنا. ليس هذا مكانك. و لا أتحرك من مكاني. تلتقي عيناي بعيني أبي. يبتسم أبي و يقول صوت هاديء, دعها تجلس معنا مثل أخيها. و يصيح عمي. أخوها ولد و هي بنت, و الشريعة تمنع إختلاط البنت بالرجال. و يرد أبي: لا يا فضيلة الشيخ, الشريعة لا تمنع الإختلاط و ابنتي تخرج وحدها كل يوم إلى المدرسة.
كنت أنظر إلى إبنة عمي
بإشفاق. أحمد الله بيني و بين نفسي. لو كان عمي الشيخ هو أبي لتزوجت مثلها رجلاً
لم أره و أنجبْت منه عشرة أطفال و نسيت حروف إسمي.
و سألت أبي ذات يوم. كيف لا يفهم عمي الشريعة مع أنه يُدَرِّس الشريعة للناس؟ و قال أبي: الشريعة يا إبنتي هي ما ينفع الناس و ما يرفع عنهم القيود. و الجهل قيد. و المعرفة نور. و أنا أريد لك النور و ليس القيود. إعرفي كل شيء. واجهي الحياة بعينين مفتوحتين. لا تختفي وراء الحجاب.
تعودت منذ الطفولة أن أسير و وجهي للشمس. أبي لم يُحَرِّم المعرفةة. قطفت الثمرة من الشجرة من دون أن أكون حواء الآثمة.
و سألت أبي ذات يوم. كيف لا يفهم عمي الشريعة مع أنه يُدَرِّس الشريعة للناس؟ و قال أبي: الشريعة يا إبنتي هي ما ينفع الناس و ما يرفع عنهم القيود. و الجهل قيد. و المعرفة نور. و أنا أريد لك النور و ليس القيود. إعرفي كل شيء. واجهي الحياة بعينين مفتوحتين. لا تختفي وراء الحجاب.
تعودت منذ الطفولة أن أسير و وجهي للشمس. أبي لم يُحَرِّم المعرفةة. قطفت الثمرة من الشجرة من دون أن أكون حواء الآثمة.
نوال السعداوي16-2-1987