كانت معرفة أخبار العرب مقرونة فيما مضى بحفظ الأشعار، وإن لم يَكُنْ للفظ «الأخبار» هذا المعنى الحديث الذي صار لها وغلب عليها، فقد كان أقرب إلى معنى التاريخ وأشبه به، وكان الشعر نفسه يُعَدُّ ديوانًا لأخبار العرب، وسجلًّا لأيامهم ووقائعهم، وقد اقترن الأدب بالصحافة في زماننا هذا اقترانًا يظهر أنه لا حيلة فيه ولا مهرب منه.
وقد يسأل القارئ: هل في هذا الاقتران ضير؟ والجواب الذي أستطيع أن أدلي به هو أني أرجح أن لا ضير من ذلك، وأقول «أرجح» لأني أراني أزداد على الأيام زهدًا في الجزم، ونفورًا من البَتِّ، وترددًا بين النفي والإثبات، وإيثارًا للتريُّث لعل وجهًا أو جانبًا آخر للأمر يتبدى، فأعرف ما كان غائبًا عني، وما عسى أن يكون للإلمام به أثر في الرأي الذي أذهب إليه، حتى صرت أتقلب بين الرأي وخلافه مرات قبل أن أستقر، ولست أحس بعد طول التردد بالاطمئنان إلى الصواب، وما أظن إلا أن هذا التردد قد أورثنيه ما وقعت فيه من الخطأ، وما ركبني مرارًا من الجهل، وما كثر تورطي فيه بالتسرع وقلة الأناة.
وأوثر قبل الجواب المفصل أن أصف للقارئ ما كان من أمري بين الأدب والصحافة، وأحسب أن هذا الوصف يصلح أن يكون بيانًا كافيًا، فقد كنت أديبًا قبل أن أكون صحفيًّا، وكنت في ذلك الصدر من حياتي معلمًا أيضًا، ولكني كنت أشعر أن التعليم لا يلتقي بالأدب في ملتقى واحد، أو يعين عليه، أو ييسر أمره، وكنت أرى أن الوقت الذي أنفقه في التعليم كان الأدب أولى به، أو هو مقتطع من حق الأدب، وكنت أحس أن التعليم لا يصلني بالحياة الصلة اللازمة لفهمها، وكان تلاميذي لا هُم من الأطفال فأدرس فيهم هذا الطور الحيوي من حياة الإنسان، ولا هم رجال كبار ناضجون، وإنما هم بين بين، فكأني معهم في برزخ، ولهذا كان أدبي نظريًّا بحتًا، أو قل إنه الأدب الذي يعتمد على الكتب، ولا يستمد من الحياة إلا قليلًا؛ لأن صاحبه لا يعانيها معاناة وافية، وكنت أقول الشعر أيضًا في ذلك الزمان، وأرى الآن أن ما قلت لم يكن سوى توليد من القديم كنت أحسبه جديدًا أو تجديدًا؛ لأنه لم يكن مظهرًا لاستجابة النفس لما يُهيب بها من الحياة إذ تواقعها، وكنت متكلفًا في أسلوب الشعر والنثر جميعًا؛ لأني أعيش بين الكتب ولا أكاد أعرف سواها إلا ظنًّا على الأكثر. ولهذا كان أدبي في ذلك العهد دراسات في الأغلب، قوامها القراءة وحدها تقريبًا، وشعرًا لا يصور النفس على حقيقتها ولا يعبر عنها تعبيرًا صحيحًا؛ لأن الاقتياس فيه بالقديم — من شرقي وغربي — أكثر من الاستمداد من التجريب، وكنت بطيئًا في الكتابة والنظم، معنيًّا بالتجويد كما كنت أفهمه، وكنت مع عنايتي بالمعنى لا أرضى إلا عمَّا ترضى عنه أذني حين أعرضه عليها.
ثم كان ما صرفني عن التعليم وألحقني بالصحافة، فكابدت في أول الأمر شدة عظيمة؛ لأني اعتدت الكتابة على مهل، وأَلِفْتُ ما كنت أتكلفه من الجزالة والفخامة، ولا يكاد ذلك يتسنى في الكتابة للصحف لأنها في عجلة، وهي تأبى أن تتمهل أو تُمهل، وآلاتها تدور في أوقاتها بلا تقديم ولا تأخير، فكنت أكتب في البيت لأكون في فسحة من أمري، ولأتقي عواقب هذه العجلة الشيطانية، وتأثيرها السيئ — فيما كنت أرى — في أسلوبي الفخم. وعلى ذكر الأسلوب أقول إن الظن الشائع هو أني كنت متأثرًا في البداية بالجاحظ، وهذا صحيح، ولكن أصح منه فيما أعلم أني كنت مفتونًا بأسلوب الجرجاني — عبد القاهر — صاحب «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، على أن هذا شيء قد مضى، وعهد قد انقضى ولله الحمد.
ووجدت على الأيام أن الكتابة في البيت لا تتفق ومطالب العمل الصحفي، وأن ما أتكلفه من التجويد، وأُعنى بتأخيره من الألفاظ يجعل ما أكتب نابيًا قلقًا في موضعه وسط هذا الخضم الزاخر، ولم أكن راضيًا عن الأسلوب الذي تكتب به الصحف، ولكن عدم الرضى عن لغة الصحافة لا يستوجب أن أذهب إلى الطرف الآخر وفي الإمكان التوسط، وتبينت على الأيام أن لغتي القديمة فاترة أو خامدة، وأني كأني قطعة متخلفة من زمان مضى، وأن الحياة الجديدة لها لغتها، وأن اتصالي بحياة الناس بفضل الصحافة، قد فَجَّرَ في نفسي ينابيع جديدة، وأَكْسَبَ أسلوبي نبضانًا ليس من الوجع بل من الحيوية، وأفدت مرونة كانت تنقصني أنا وتنقص لغتي وأسلوبي، وأصبحت قادرًا بفضل الصحافة أن أكتب في أي وقت وفي أي موضوع، وفي خلوة أو بين الناس، وأن أحصر ذهني فيما أنا فيه، فلا تشتت خواطري الضجات التي تكون حولي.
وأقول بإيجاز: إني كنت كالراهب أيام كان التعليم عملِي، فلما زاولت الصحافة خرجت من العزلة القديمة — عزلة الفكر والنفس — ونزلت إلى الحلبة، أو خضت العباب؛ فكأني انتقلت من عالم إلى عالم، أو هبطت من كوكب إلى كوكب، في هذا الفلك الدوار.
وقد لا أرضى عمَّا أُخرج في هذا العهد الثاني، ولكن — ما أُخرجه هو على كل حال، وسواء أأرضاني أو لم يُرْضِنِي — ثمرة التجربة للحياة ومشاركة الناس فيها، أما في العهد الأول فقد كان ما أخرج هو ثمرة القراءة والتحصيل مع تعذر التجربة الشخصية.
فأول ما يفيده الأديب من الصحافة هو اتصاله بالحياة — حياة الجماعة وحياة الفرد — وفهم هذه الحياة على قدر ما يتيسر له ذلك بحسب استعداده وما رزق من المواهب والمَلَكات.
وتفيده الصحافة أيضًا أن أسلوبه يصبح حيًّا، وتقول لي تجربتي إني كنت قبل العمل في الصحافة أشبه بمومياء محنطة، فلما دخلت في الصحافة أحسست بالدماء تجري في عروق هذه المومياء، وأنها أصبحت قادرة على موافقة الحياة في أكثر من موضع واحد، وأنها صارت تنظر وتُحِسُّ وتفكر وتنطق كما ينطق الأحياء، ولا تكتفي بأن تتبدَّى للناظرين إليها — كما كانت تفعل إذ هي مومياء — وتوحي إليهم أو لا توحي شيئًا.
وتفيده كذلك مرونة في الأسلوب — أسلوب الكتابة وأسلوب التناول — فهي مدرسة نافعة، أو أقل لازمة للأديب، وإن كانت مشغلة شديدة، على أن ما تأخذه من وقت الأديب ليس شر ما فيها، وإنما شره أنها قد تغريه بأمرين على الخصوص: السطحية، أو بعبارة أخرى اجتناب الغوص والتعمق والاكتفاء بأول وأسهل ما يرد على الخاطر ابتغاء التخفيف عن القارئ واتقاء الإثقال عليه، ومن هنا يخشى أن يعتاد الأديب الكسل العقلي.
والأمر الثاني: أن الصحافة قد تدفع الأديب إلى توخي مرضاة القارئ العادي فيحرص على ذلك حرصًا قد يفسد عليه أدبه، ويضيع مَزِيَّتَه، ويفقده قيمته.
وقد كنت وأنا معلم — أُدَرِّس الترجمة — أخشى على نفسي أن أهبط إلى مستوى التلاميذ، وأن أتعود التسامح والتسهل، فأعالج ذلك بالعكوف على قراءة الأدب القديم، وعسى أن يكون هذا هو الذي يرجع إليه أني كنت أتكلف الجزالة والفخامة في صدر حياتي، ولكن لا بد من علاج لأثر الصحافة السيئ في أدب الأديب، فلا مفر له من دوام الاطِّلاع على الآثار الخالدة، ليعتدل الميزان ويستقيم الأمر، ويتقي السطحية من ناحية، ومصانعة القارئ من ناحية أخرى.
No comments:
Post a Comment