والتي رمتني بدائها هي إذاعة دمشق، والطائفة الطاغية الباغية التي تُدبِّر أمرها وتُوجه أحاديثها وتَفرض عليها في كل لحظة أن تُغير حقائق الأشياء، وأن تتكلف الكذب على السوريين وغير السوريين، في غير تحفُّظ ولا تحرُّج ولا استحياء. وداؤها الذي رمتني به هو أني لم أكتب المقال الذي نشرته الجمهورية صباح السبت الماضي من تلقاء نفسي ولا من وحي ضميري ولا من تفكير عقلي، وإنما أُمْلِيَ عليَّ ذلك المقال فحفظته عن ظهر قلب، وأمليته كما تلقيته وأرسلته إلى الجمهورية فنشرتْه كما تلقته مني.
كأني أصبحت ذات يوم أداة من أدوات الحكم توجه إلى العمل فتعمل وتُكَلَّفُ القول فتقول. كأني أصبحت فردًا من الذين يعملون في إذاعة دمشق أو كاتبًا من الكتاب الذين يملئون صحف دمشق بما يؤمرون أن يملئوها به، بعد أن كانوا منذ وقت قريب يملئونها بما يناقض هذا الذي يكتبونه الآن أشد المناقضة ويخالفونه أعظم الخلاف؛ قد انقلبوا فجأة أنصارًا للفُرقة بعد أن كانوا أنصارًا للألفة، ودعاة إلى الانفصال بعد أن كانوا دعاة إلى الوحدة، ومتملقين للتمرد بعد أن كانوا يلتمسون الوسائل إلى إرضاء الشعب السوري والشعب العربي كله والقائمين على أمور الوحدة بين مصر وسوريا. وهؤلاء المذيعون والكتاب الذين يخلعون ضمائرهم كما يخلعون ثيابهم ويضعون مكانها ضمائر جديدة، كما يبدلون بثوب ثوبًا وبقميص قميصًا؛ هم فيما بينهم وبين ضمائرهم التي خلعوها وضمائرهم الجديدة التي فرضت عليهم فرضًا وأكرهوا على اتخاذها كرهًا، يعلمون أني لست من الذين يكتبون غير ما يشعرون به أو يقولون غير ما توحي إليهم به ضمائرهم. هم يعلمون ذلك حق العلم وتؤمن به ضمائرهم القديمة وضمائرهم الجديدة أيضًا، ولكنهم أُمروا فكتبوا وقيل لهم فقالوا. ولست أدري ما الذي قلته في ذلك المقال الذي أنكروه أشد الإنكار وضاقوا به أعظم الضيق، لا لأن نفوسهم تضيق به حقًّا، ولا لأن ضمائرهم القديمة والجديدة تنكره حقًّا؛ بل لأن سادتهم من هذه الفئة الطاغية في سورية قد أنكروا ما قلت، وضاقوا به وأمروهم أن يتكلفوا إنكاره والضيق به. فهل يستطيعون أو يستطيع سادتهم من الطغاة البغاة أن ينكروا أن الشعب السوري كان أشد الشعوب إيثارًا للوحدة ودعاء إليها وإلحاحًا فيها؟ وهل في ذلك ما يؤذي هذا الشعب السوري؟ أم هل هو في نفسه إنصاف له وإشادة به؟ وهل ينكرون أن السوريين هم الذين سعوا إلى الوحدة وألحُّوا فيها وانتقلوا من سورية إلى القاهرة ليجدُّوا في تحقيقها ويحاصروا رئيس الجمهورية المصرية ووزراءه حتى يقبلوا هذه الوحدة ويجيبوا إليها؟ وأي شيء في ذلك يهين السوريين أو يؤذيهم أو يضع من قدرهم؟ وهل يستطيعون أن ينكروا أن الشعب السوري قد استُفتي في هذه الوحدة فأقرَّها مؤمنًا بها مجمعًا عليها؟ وأي شيء في ذلك يهين الشعب السوري أو يؤذيه أو يغض من قدره؟ ثم هل يستطيعون أن ينكروا أن الشعب السوري بعد هذه الوحدة قد اطمأن في وطنه ورأى أنه آمن على حدوده وأنه أصبح فوق مطامع الطامعين وفوق أهواء الذين كانوا يكيدون له ويمكرون به ويحاولون الاعتداء عليه؟
رأى الشعب السوري هذا كله، فبرئ من الخوف، وانجلت عنه غمرات الشك، وفرغ لحياته آمنًا راضيًا مطمئنًّا، عريض الأمل في مستقبله السعيد. ثم هل يستطيعون أن ينكروا آخر الأمر أن الشعب السوري قد يُسرت له الحياة بعد الوحدة في وطنه السوري وفي الوطن المصري أيضًا، فأنشئت له مرافق لم يكن يرجوها — بل لم يكن يحلم بها — وانتشر فيه التعليم وأُمِدَّ بالفنيين ليذللوا له العقبات ويهونوا عليه الصعاب، ويفتحوا له أبواب الرخاء على مصاريعها، وأن الشعب المصري قد قسا على نفسه واشتد في القسوة عليها لتلين الحياة لإخوانه السوريين، وقد حَرم نفسه نشاط الفنيين من أبنائه ليسعد السوريين ولتصبح حياتهم خيرًا مما كانت، وليسرع إلى الرقي ويسرع إليه الرغد وتمتد أمامه الآمال أكثر مما كان يرجو وأسرع مما كان يتمنى، وأن الشعب المصري قد ضيق على نفسه في الإنفاق ليتيح لإخوانه السوريين ما يحتاجون إليه من المال؛ ليتحقق الإصلاح الشامل في الوطن السوري ويتناول هذا الإصلاح فروع الحياة السورية كلها.
كلا، لن يستطيع الطغاة البغاة في سورية، ولن يستطيع الكتَّاب والمذيعون الذين أُكرهوا على أن يكونوا أصداء لهذه الفئة الطاغية الباغية. لن يستطيع أولئك وهؤلاء أن ينكروا شيئًا من ذلك الذي قلته في المقال الذي نشرته الجمهورية يوم السبت الماضي.
وإنما يستطيعون أن يجحدوا الجميل، وينكروا المعروف، وأن تضيق أنفسهم بالحق، وأن تفزع ضمائرهم من هذا الواقع الذي ليس فيه شك، والذي ستنهض بتحقيقه الجامعة العربية وتدفع به باطل المتمردين، ويومئذ يعلمون صدق الآية الكريمة على كل مكابر معاند يماري بما لا معنى للمراء فيه: ().
وشيء آخر أضيفه الآن إلى ما قلته يوم السبت الماضي؛ وهو أن هذه الوحدة التي قامت بين مصر وسورية، إنما قامت على عهد مؤكد وميثاق مشدد لا بين الحكومتين في مصر وسورية، بل بين الشعبين المصري والسوري، وأن هذا العهد ملزِم للطرفين لا سبيل إلى أن يتحلل منه أحدهما إلا بعد أن يتراضى هذان الطرفان على التحلل منه، وأن هذه الفئة الطاغية الباغية نقضت هذا العهد ظالمة لنفسها وظالمة للوطن السوري وللشعب السوري.
لم تفاوض مصر في التحلل من هذا العهد، ولم تحاول هذه المفاوضة، ولم تَدْعُ إليها جهرة. وإنما وثبت في ظلمة الليل، فاعتدَتْ على نفسها، واعتدَتْ على شعبها، واعتدَتْ على وطنها، واعتدَتْ على مصر وشعبها أيضًا، وأصبحت بنقضها لهذا العهد كالتي جعلت غزلها من بعد قوة أنكاثًا وخالفت عن قول الله عز وجل: ().
وحق عليهم قول اللَّه عز وجل في الذين ينقضون العهود ويحنثون في المواثيق: ().
ومن أجل هذا كله أبى رئيس الجمهورية أن يُحبِط عمل هذه الفئة الطاغية الباغية بقوة السلاح؛ لأنه لا يريد أن يسفك دماء العرب، ولا يريد أن يُفسد في الأرض، وأبى في الوقت نفسه أن يعترف بحكومة سورية قبل أن يُستفتى الشعب السوري في أمر هذا الانفصال استفتاء حرًّا كريمًا لا أثر فيه للطغيان ولا للبغي ولا للإكراه؛ لأن رئيس الجمهورية لا يريد ولا ينبغي له أن يُكرِه الشعب السوري على ما لا يحب، ولا أن ينقض العهد ويحنث في الميثاق دون أن يكون الشعب السوري هو الذي يرغب في التحلل من هذا العهد والميثاق؛ لأن رئيس الجمهورية لا يريد أن يخالف عن أمر الله ولا عن الوفاء بالعهود والمواثيق.
وليس من شك في أن الفئة الطاغية الباغية والكُتَّاب والمذيعين الذين أكرهوا على أن يكونوا لها أصداء، سيستنكرون هذا المقال وسيضيقون به كما أنكروا ذلك المقال وضاقوا به. وستغلي مراجل حقدهم عليَّ وغيظهم مني، وستلهج بي صحفهم وإذاعتهم، ولكني أقول لهم ما أمر الله نبيه أن يقول للمنافقين: ().
No comments:
Post a Comment