Sunday, March 23, 2014

مرونة أكثر في المخ عند من يعانون من الأرق


الأرق ليس اضطرابًا يرتبط بوقت الليل، وإنما هو حالة يعيشها المخ على مدى الأربع والعشرين ساعة كأنما هو زرُّ إضاءة مضبوط على وضع تشغيل طيلة الوقت. ذلك ما جاء عن علماء مدرسة الطب بجامعة «جونز هوبكينز»؛ حيث وجدوا أن الأفراد الذين يعانون الأرق المزمن لديهم اختلافات كبيرة في منطقة القشرة الحركية المسئولة عن الحركة اللاإرادية في المخ؛ إذ إنها تتمتع بمزيد من المرونة، أي قدرة أكبر على التكيُّف مع التغيير عن أولئك الذين يحظون بنوم أفضل، كما أن الخلايا العصبية في هذه المنطقة أكثر نشاطًا. وفي الدراسة استعان الباحثون ﺑ ٢٨ شخصًا، منهم ١٨ يعانون من الأرق، و١٠ ينامون بشكل طبيعي، وثبتوا في أصابع الإبهام أقطابًا كهربائية ومقياسَ تَسارُعٍ لقياس سرعة الإبهام واتجاهه، وأعطوا كلاًّ منهم مجموعة مكونة من ٦٥ نبضة كهربائية لإثارة أجزاء من القشرة الحركية، وراقبوا الحركات اللاإرادية للإبهام. ثم درَّبوا كل متطوع لمدة ٣٠ دقيقة على تحريك أصابعهم في اتجاه معاكس لاتجاه الحركة الأصلية اللاإرادية، ثم أعطوهم النبضات الكهربائية مرة أخرى، وكلما استطاع المشاركون تحريك الإبهام في الاتجاه الجديد زاد احتمال تمتع القشرة الحركية بالمرونة. وقد أثبتت نتائج البحث أن الأشخاص الذين يعانون من أرق مزمن يتمتعون بمرونة عصبية أكبر، وهو عكس المتعارف عليه عند العلماء. ولا يتضح منشأ المرونة الزائدة في المصابين بالأرق، ولا ما إذا كانت زيادتها هي سبب الأرق، وهل هذه الزيادة مفيدة أم لا، أو هل هي جزء من آلية تعويضية لمواجهة عواقب الحرمان من النوم المرتبط بالأرق المزمن؛ إلا أنهم يخمنون وجود ارتباط بين الكثير من المشكلات المترتبة على الأرق، مثل: زيادة الأيض، وزيادة نسب الكورتيزول، والقلق المستمر، وبين مرونة القشرة الحركية. والأمر الرائع أن الباحثين طوَّروا اختبارًا من شأنه أن يحدد بشكل قاطع هل هذا الشخص مصاب بالأرق أم لا؛ إذ كثيرًا ما كان يعتمد تشخيص الأرق على الأعراض التي يصفها المريض، وعليه فكثيرًا ما كان يحدث خطأ في التشخيص. ويرجو الباحثون أن يطور بحثهم من تشخيص وعلاج هذا الاضطراب الشائع الذي كثيرًا ما يصعب السيطرة عليه.

معدن نادر يشير إلى محيطات أسفل القشرة الأرضية


قادت الصدفة علماء جامعة ألبرتا الكندية إلى اكتشاف معدن «رينج وديت»، شديد الندرة، داخل ماسة بنية ضئيلة الحجم وغير ثمينة، قذفت بها صخرة كمبرلايت البركانية ذات المائة مليون عام إلى سطح الأرض في إحدى مناطق تعدين الماس بوسط البرازيل. وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي يتم العثور فيها على هذا المعدن النادر على سطح الأرض، فكل العينات السابقة كانت من بقايا النيازك، فهو أحد المعادن التي تتكون عند ضغط عالٍ وحرارة مرتفعة. ويتصور العلماء أنه المُكوِّن الرئيس للصخور في المنطقة الانتقالية التي تقع على عمق من ٤١٠ إلى ٦٦٠ كيلومترًا بين الدثار العلوي والسفلي أسفل القشرة الأرضية. وبوجود جزيئات المياه بنسبة تصل إلى ١٫٥٪ من وزن هذه العينة الصغيرة من المعدن، يتخذ العلماء من هذا الاكتشاف دليلًا على وجود المياه في هذه المنطقة الانتقالية أسفل سطح الأرض بكميات كبيرة قد تزيد عن كميات مياه المحيطات فوق الأرض. وهي النظرية التي أثارت جدلًا كبيرًا بين العلماء على مدى عقود. ويؤكد هذا الاكتشاف على وجود الهيدروجين كأحد مكونات الأرض وليس كعنصر قادم من الفضاء، كما أنه يعزز دراسة نظرية الصفائح التكتونية وتأثيرها على تكوُّن وحركة الصخور والبراكين، وكذلك إمكانية وجود مياه في الكواكب الصخرية الأخرى.

اليوم العالمي لمتلازمة داون


احتفلت الأمم المتحدة والمنظمات العالمية في الحادي والعشرين من مارس باليوم العالمي لمتلازمة داون؛ بهدف توعية الأفراد بطبيعة هذا المرض وفَهمه. وتُسلِّط الأنشطة التي تُقام في هذا اليوم الضوءَ على إنجازات الأفراد المصابين بمتلازمة داون والقدرات التي يتمتَّعون بها؛ وذلك بهدف إدماجهم في المجتمع مرة أخرى، كما يتم تكريم بعضهم. تنشأ متلازمة داون عن وجود نسخة إضافية من الكروموسوم رقم ٢١؛ مما يترتب عليه تأخُّر معرِفي تصاحبه بعض المشكلات الصحية مثل أمراض الغدة الدَّرَقِيَّة، وارتجاع في المريء، والتهاب الأذن، وتأخُّر في النمو، وبعض الملامح المميِّزة للوجه. ويَصِلُ معدل ذكاء الطفل المصاب بمتلازمة داون إلى حوالي ٥٠ مقارنة بالطفل العادي الذي يبلغ ١٠٠. وتصيب متلازمة داون شخصًا كل ٨٠٠ شخصٍ طبقًا لإحصاءات الأمم المتحدة. ومن أهم أهداف هذا اليوم أيضًا إعادةُ دمج المصابين بمتلازمة داون في المجتمع، وضمان حصولهم على الرعاية الصحية المناسِبة لهم، والاعتراف بحقهم في العمل، وإتاحة الفرصة لهم لكسب الرزق؛ مساواةً بغيرهم دون تمييز، وتوعية الأفراد بأن متلازمة داون لا تجعل الشخص غير سليم بدنيًّا؛ فهي حالة جينية وليست مرضًا، وأن المصابين بمتلازمة داون قد يعانون مشكلات صحية في حياتهم شأنُهم في ذلك شأنُ أيِّ إنسان آخر، وأن هناك مشكلات صحية مُعيَّنَة تصيب الأفراد المصابين بمتلازمة داون، وهي معروفة؛ لذا يجب على القائمين على العلاج أن يكونوا على دِراية بها عند علاج هؤلاء الأشخاص. ولا ينبغي أن يرفض الأطباء علاجهم أو تشخيص حالاتهم الصحية على أنها أعراض عامَّة لمتلازمة داون. وكانت المرة الأولى التي تم فيها الاحتفال بهذا اليوم في عام ٢٠٠٦ في كثير من البلدان حول العالم برعاية المنظَّمة العالمية لمتلازمة داون، ثم اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاحتفال بهذا اليوم رسميًّا في عام ٢٠١١، وقد اختير يوم الحادي والعشرين من مارس تحديدًا؛ نسبةً إلى اسم المتلازمة فهي تُعرف بمتلازمة التثالُث الصبغي ٢١. ويتمثل أحد مظاهر الاحتفال بهذا اليوم في ارتداء أشرطة أو عصابات مكتوب عليها متلازمة داون. وفي مصر يشارك مشروع «دمج» مع «كايرو رانرز» في إقامة ماراثون في هذا اليوم؛ بهدف التوعية ودمج المصابين في متلازمة داون في المجتمع والمدارس.

اليوم العالمي للسعادة


في عام ٢٠١٢، دعت الجمعية العمومية للأمم المتحدة العالم إلى الاحتفال باليوم العالمي للسعادة في العشرين من مارس من كل عام؛ وذلك من منطلق إيمانها بأن السعادة هي هدف أساسي للإنسان، وأنها ترتبط بالعيش الكريم. فالسعادة هي حالة ذهنية أو شعورية بالعيش الكريم تُميِّزها مشاعر إيجابية تتراوح ما بين الشعور بالرضا والجذل الشديد. وترى الأمم المتحدة أن هذا اليوم هو دعوة لتعزيز التزامها بالتنمية البشرية الشاملة والمستدامة. وأحد مظاهر الاحتفال بهذا اليوم أن الأمم المتحدة ستصدر مجموعة من الطوابع مكونة من ست صور تعبر عن السعادة، ويحمل كلٌّ منها كلمة سعادة بلغة من لغات الأمم المتحدة الستِّ الرسمية، كما سيحيي الفنان فاريل ويليامز حفلًا بهذه المناسبة بالتعاون مع الأمم المتحدة، كما يدعو الناس حول العالم لجمع التبرعات لدعم الجهود التنموية البشرية حول العالم. وتدعو حركة «هابينس فور أكشن» الخيرية الناس حول العالم للاحتفال بهذا اليوم لاسترداد السعادة، وأن يتشاركوا رؤًى أصيلة حول السعادة. وبمناسبة هذا اليوم تقدم دورية «هافينجتون بوست» بعض النصائح للسعادة، فتدعو إلى الابتسام؛ فمجرد تحريك عضلات الوجه المسئولة عن الابتسام يُفرز هرموني السيروتونين والإندورفينز في المخ، ومساعدة الآخرين التي تجلب الإحساس بالرضا، واللعب، والتواصل الحقيقي بين الأفراد، وليس من خلال وسائل التواصل الإلكترونية، والتعبير عن العرفان بالجميل، ووضع تحدٍّ يناسب إمكانياتك؛ ذلك لأنه إذا كان التحدي أكبر من إمكانياتك فستشعر بالإحباط، وإن كان أقل فستشعر بالملل، والتمتع بالقدرة على الاسترخاء، واستخدام الكلمات الإيجابية المليئة بالأمل، فهي تطلق هرمونات السعادة في المخ، وتُغيِّر التوجُّه الفكري، وممارسة الرياضة؛ فهي تُحرِّر من الاكتئاب، ولا يجب النظر إليها على أنها عبء، وإنما شيء يجلب السعادة، والتمتع باللحظة الآنية.

اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري




في عام ١٩٦٠، قامت مجموعة من الأفراد في جنوب أفريقيا بالتظاهر السلمي ضد قوانين التمييز العنصري عندما فتحت عليهم الشرطة النيران، وأسقطت ٦٩ قتيلًا، ومنذ ذلك الحين أُلغيت تلك القوانين وكثير من الممارسات العنصرية. وفي عام ١٩٦٦، دعت الجمعية العمومية للأمم المتحدة المجتمع الدولي لتكثيف جهوده للقضاء على كافة أشكال التفرقة العنصرية، وأعلنت اﻟ ٢١ من مارس يومًا عالميًّا للقضاء على التمييز العنصري. وتحتفل دولة جنوب أفريقيا في هذا اليوم أيضًا بعيد حقوق الإنسان. وفي هذا اليوم يتذكر العالم من ضحوا بحياتهم للتصدي للتفرقة العنصرية، وحاربوا من أجل الديمقراطية، وتطالب المنظمات والحركات العالمية بحقوق متساوية للإنسان، وتثير قضايا التفرقة العنصرية، وتُقام الندوات والمؤتمرات بغرض رفع وعي العامة، كما يُشار أيضًا إلى القضايا العنصرية في مجال الرياضات في الكثير من البلدان، ولطالما كانت تعد ممارسة الرياضات من أفضل السبل لمكافحة العنصرية وكره الأجانب والتعصب بين الناس على مستوى العالم، وكان الغرض من إقامة الألعاب الأوليمبية هو خلق التناغم بين الناس من مختلف الأعراق، وكذلك إذابة التوتر الاجتماعي والصراع بينهم. وهناك بث مباشر من بين جدران مقرات الأمم المتحدة لمختلف الأنشطة التي تقوم بها لمكافحة العنصرية. ويتيح هذا الاحتفال للشباب الإدلاء برأيهم حول مكافحة العنصرية، وكذلك تعزيز روح التسامح بين الناس، ومن بين الأنشطة التي تُقام معارض الصور، ونشر مقالات التوعية. ومنذ عام ١٩٩٣ تدعو منظمة «يونايتد» — وهي شبكة أوروبية تلقى دعمًا من المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي والكثير من الوزارات والمؤسسات والهيئات العالمية من أجل محاربة العنصرية والفاشية ودعم المهاجرين واللاجئين — المجتمع الدولي للقضاء على العنصرية؛ إذ تقيم أسبوعًا كاملًا — يمتد في الفترة من ١٥–٢٣ مارس من كل عام — لمكافحة العنصرية؛ حيث تُقام أنشطة مختلفة في مختلف البلدان الأوروبية تحت رعاية حملة كبيرة مشتركة تقوم على تقديم الأدوات والموارد اللازمة من معلومات وشعارات وملصقات ومقاطع فيديو ووثائق للمنظمات والحركات المحلية التي تنظم الأنشطة. وتقوم منظمة يونايتد بتجميع كل هذه الأنشطة في خريطة إلكترونية متاحة على الإنترنت.

ذكي مبارك

زكي مبارك

زكي مبارك: أديب وشاعر وناقد وصحفي مصري، حاصل على ثلاث درجات دكتوراه.
ولد الأديب زكي عبد السلام مبارك في الخامس من أغسطس عام ١٨٩٢م بقرية سنتريس بمحافظة المنوفية لأسرة ميسورة الحال. توجَّه في طفولته إلى الكُتَّاب، وأدمن زكي مبارك القراءة منذ كان في العاشرة من عمره، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة عشرة.
حصل زكي مبارك على شهادة الأهلية من الجامع الأزهر عام ١٩١٦م، وقرر بعدها أن يلتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية، حيث تخرج فيها وحصل على درجة الليسانس عام ١٩٢١م، وأكمل بعد ذلك دراساته العليا لينال درجة الدكتوراه في الأدب من الجامعة ذاتها عام ١٩٢٤م. ولم يقف زكي مبارك عند هذا الحد، لكنه سافر إلى باريس والتحق بمدرسة اللغات الشرقية وحصل منها على دبلوم الدراسات العليا في الآداب عام ١٩٣١م، وواصل مبارك مسيرته العلمية بالحصول على الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون عام ١٩٣٧م.
تتلمذ زكي مبارك على يد الشيخ المرصفي الذي لعب دورًا إصلاحيًّا كبيرًا في تطور الدراسات الأدبية واللغوية في ذلك العصر. وتتلمذ أيضًا على يد طه حسين، ولكنه كان تلميذًا مشاغبًا يقارع أستاذه، ولا يستكين استكانة المتلقي، بل يُعمل عقله النقدي ويجاهر مجاهرة الواثق بقدراته، حيث قال لأستاذه طه حسين ذات مرة أثناء إحدى المناقشات في مدرج الجامعة: «لا تتعالموا علينا ففي وسعنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين.»
تبوَّأ زكي مبارك مكان الصدارة في مجالي الشعر والخطابة، ورمى بنفسه في أتون ثورة ١٩١٩م مستغلًّا هذه المكانة ليلهب مشاعر الجماهير بخطبه البليغة الوطنية، ويفجر المظاهرات بأشعاره النارية.
لم ينل زكي مبارك حظه من المناصب نتيجة لـسببين رئيسين، أولًا: معاركه الأدبية مع أقطاب عصره كطه حسين، وعباس العقاد، والمازني وغيرهم. ثانيًا: تفضيله الابتعاد عن التيارات الحزبية الممالئة للقصر والنفوذ البريطاني؛ لذلك سافر الرجل إلى العراق، وهناك مُنح «وسام الرافدين» في عام ١٩٤٧م. وقد كتب مبارك طوال مسيرته الأدبية ٤٥ كتابًا، منها كتابان باللغة الفرنسية. وقد توفي مبارك عام ١٩٥٢م ودفن في مسقط رأسه.

 الكتب المُؤلَّفة

  • الأسمار والأحاديث
  • الأخلاق عند الغزالي
  • وحي بغداد
  • الموازنة بين الشعراء
  • التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق
  • ذكريات باريس
  • عبقرية الشَّريف الرَّضي
  • العشاق الثلاثة
  • النثر الفني في القرن الرابع
  • مدامع العشاق

Thursday, March 20, 2014

هل يتفوق ذكاؤك حقًّا على ذكاء إنسان نياندرتال؟


منذ استخراج أقدم الحفريات لأول شبيه للبشر — قوي البنية، مفتول العضلات، منخفض الجبهة، والذي يشبه صدره صدر الشمبانزي — في ألمانيا عام ١٨٥٦، سلب إنسانُ نياندرتال عقولَ البشر، وأثار ازدراءهم في الوقت نفسه؛ فقد أعلن إخصائي علم الأمراض الألماني رودولف فيرشو أن العظام التي وُجدت إنما هي عظام قوزاقي جريح، وتعكس عظامُ القوس الحجابية في صدفة جبهته سنواتٍ من العبوس نتيجة الألم. وأشار عالِم الحفريات القديمة الفرنسي مارسيلين بول إلى أن الحفريات قديمة، لكنه تجاهل العلامات التي دلَّت على أن العينة التي فحصها كانت تعاني من التهاب المفاصل. وكان هو أيضًا مَن كوَّن انطباعًا لا يزال عالقًا في أذهان معظم الناس حتى الآن عن أن إنسان نياندرتال حيوان مثني الركبة ثقيل الحركة. ورأى الجيولوجي الأيرلندي ويليام كينج أن الكائن يشبه القرد كثيرًا، حتى إنه فكَّر في تصنيفه جيولوجيًّا في جنس جديد، غير أنه في النهاية صنفه في درجة ثانية من نوع منفصل هو هومو نياندرتال.
فرد من أفراد العائلة.
فرد من أفراد العائلة.
التزاوج مع إنسان نياندرتال: مقارنة بين جينوم إنسان نياندرتال وجينوم الإنسان الحديث تشير إلى أن كليهما التقيا وتزاوجا منذ قرابة ٤٥ ألف سنة.
التزاوج مع إنسان نياندرتال: مقارنة بين جينوم إنسان نياندرتال وجينوم الإنسان الحديث تشير إلى أن كليهما التقيا وتزاوجا منذ قرابة ٤٥ ألف سنة.
ثلاثمائة ألف سنة من التقدم: طوَّر إنسانُ نياندرتال العديدَ من التقنيات والممارسات الثقافية لمنافسة تقنيات وثقافة الإنسان العاقل الذي عاصره.
ثلاثمائة ألف سنة من التقدم: طوَّر إنسانُ نياندرتال العديدَ من التقنيات والممارسات الثقافية لمنافسة تقنيات وثقافة الإنسان العاقل الذي عاصره.
ومنذ ذلك الحين، يتم الكشف عن مئات المواقع التي تضم حفريات إنسان نياندرتال. وتُظهر تلك المواقع أن إنسان نياندرتال عاش في كثير من مناطق أوراسيا الحديثة؛ من الجزر البريطانية إلى سيبيريا، ومن البحر الأحمر إلى بحر الشمال. كما ظل على قيد الحياة في هذه الأماكن مائتي ألف سنة أو أكثر — وهي فترة تتسم بالفوضى المناخية — قبل أن يختفي في نهاية المطاف منذ حوالي ٣٠ ألف سنة. وحاليًّا، تتغير النظرة القديمة لإنسان نياندرتال، بوصفه أدنى مرتبة من الإنسان العاقل، كلما نُسبت إليه تدريجيًّا قدراتٌ ظُنَّ اقتصارها على الإنسان العاقل فحسب. الأدهى من ذلك أن النوعين كليهما يلتقيان بوضوح، فيدل جينوم إنسان نياندرتال المنشور في وقت سابق من هذا العام على أن الجنسين مهجَّنان معًا. فنحن نشاطر أكثر من ٩٩ بالمائة من جيناتنا مع إنسان نياندرتال، وتشريحيًّا بعد الانحدار من سلف مشترك منذ حوالي ٥٠٠ ألف سنة، التقى الإنسان الحديث إنسان نياندرتال وتزاوج معه، وذلك على الأرجح في الشرق الأوسط منذ حوالي ٤٥ ألف سنة.
إذا كان أسلافنا قد التقوا وتآلفوا ولم يحارب أحدهم الآخر، فلا يمكن أن يقال الأمر نفسه عن الباحثين الذين يدرسونهم؛ فقد تهافت على الاكتشافات الجديدة الباحثون الذين لديهم اعتقاد بأن إنسان نياندرتال كان يفكر كما نفكر، ويتحدث كما نتحدث، ويثري عالمه بالموسيقى والديكور والرموز كما نفعل؛ حتى إنهم اقترحوا أننا من الجنس نفسه. ومع ذلك، لا يزال هناك من يجادل باحتدام بأن عقول إنسان نياندرتال لم تكن تضاهي عقول أسلافنا من البشر العاقلين. ومن المستغرب أنهم يشيرون أيضًا إلى أحدث الأدلة الجينية لتعزيز هذا الرأي. لذلك، هل كان إنسان نياندرتال مثلنا، أم أنه مجرد نوع فاشل من أشباه البشر؟
يأتي أول الأدلة الداعمة للمعسكر الأول؛ أي أنصار المذهب التعديلي، من أنماط حياة إنسان نياندرتال، والتي تشير إلى وجود أوجه شبه مع الإنسان الحديث في بداياته. فعلى سبيل المثال، نعرف أنه بالإضافة للسكن في الكهوف والأماكن المغطاة، شيَّد إنسان نياندرتال الملاجئ. وقد عُثر على ثقوب كانت تحتلها أوتاد وأعمدة خشبية ربما كانت تُقام عليها الملاجئ ذات السطح المائل في موقعين في فرنسا (دورية أمريكان أنثروبولوجيست، المجلد ١٠٤، صفحة ٥٠). وتشير العديد من المواقد — التي يرجع تاريخها إلى قبل ٦٠ ألف سنة — إلى أن إنسان نياندرتال أشعل النيران أيضًا؛ رغم أنه لم يكن أول مَن فعل ذلك، ولكنه ربما كان أول مَن عزف الموسيقى حول نيرانه. كما نُسب له أقدم آلة موسيقية معروفة عن طريق مكتشفها آيفان تورك (مجلة نيتشر، المجلد ٤٦٠، صفحة ٧٣٧)، رغم تشكيك البعض في أن المزمار العظمي الذي يبلغ عمره ٤٣ ألف سنة والذي وُجد في دِويا بابِه في سلوفينيا ما هو إلا مجرد عظمة فخذ لأحد دببة الكهوف، ثقبتها حيوانات برية (دورية أنتيكويتي، المجلد ٧٢، صفحة ٦٥).
توجد أيضًا أدلة على أن إنسان نياندرتال ارتدى الملابس. وتعتقد شارا بيلي — من جامعة نيويورك — أنه كان ينظِّف وينعِّم جلود الحيوانات بأسنانه مثلما يفعل شعب الإسكيمو التقليدي اليوم. وتضيف قائلة: «إذا حصلتَ على جمجمة إنسان نياندرتال بالغ، غالبًا ما ستكون قواطعه بالية وصولًا إلى لبِّها الداخلي، في حين أن أضراسه سليمة. لذلك كان يستخدم على الأرجح أسنانه الأمامية في معالجة الجلود.»
ورغم أنه كان يُنظر إلى إنسان نياندرتال في البداية على أنه كان يقتات على ما يجده من فضلات، اتضح الآن أنه كان يصطاد الفرائس الكبيرة، منها وحيد القرن وأفيال الماموث البالغة. كما أنه كان يُكيف استراتيجيات الصيد التي يتبعها مع البيئة؛ إذ كان ينصب الأكمنة للفرائس التي لا تمشي في جماعات في الغابات، ويطارد ثيران البيسون وقطعان الحيوانات الأخرى في السهوب، ويصطاد الطيور والأرانب، ويصيد الأسماك من على الشاطئ (دورية بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز، المجلد ١٠٥، صفحة ١٤٣١٩).
تطلَّب تصنيع الأدوات التي استخدمها إنسان نياندرتال — والتي عبَّرت عن الثقافة السائدة في العهد الموستيري، ويعود تاريخها إلى ما بين ٣٠٠ ألف سنة و٣٠ ألف سنة ماضية — تخطيطًا وتركيزًا ومهارة كبيرة. فقد لَزِم إجراء إعدادات دقيقة للُبِّ الحجر لكي تسفر ضربة المطرقة الحجرية في النهاية عن الأداة الحادة المحدَّد تصنيعها سلفًا. ويقول توماس وين من جامعة كولورادو في كولورادو سبرينجز: «صنع إنسان نياندرتال تقنيات يجد الإنسان الحديث صعوبة في تكرار صنعها.» حتى إنه صنع أدوات معقدة من أكثر من مادة واحدة واستخدمها، بما في ذلك أول حربة بمقبض منذ حوالي ١٢٧ ألف سنة (دورية جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس، المجلد ٣٦، صفحة ٨٥٠). وتوجد أيضًا أدلة يرجع تاريخها إلى أكثر من ٨٠ ألف سنة تشير إلى أنه صنع غراء لصق به أجزاء حجرية مدببة في مقابض الرماح عن طريق تسخين راتينج البتولا في ظروف لاهوائية (دورية جورنال أوف يوروبيان أركيولوجي، المجلد ٤، صفحة ٣٨٥).
قديمًا، ساد اعتقاد بأن التقدم التقني الذي حققه إنسان نياندرتال قرب نهاية عصره نقله عنهم الإنسان الحديث الأول، ولكن يدحض هذا الاعتقاد بحثٌ حول مواقع اكتشاف حفريات إنسان نياندرتال البالغ عمرها ٤٢ ألف سنة في جنوب إيطاليا. فعلى الأقل، يوجد أدلة هناك على أن إنسان نياندرتال صنع مجموعة من الأدوات الحجرية والعظمية تختلف عن الأدوات التي استخدمها البشر الأوائل الذين عاشوا في شمال البلاد (دورية جورنال أوف أركيولوجيكال ميثود آند ثيري، المجلد ١٧، صفحة ١٧٥). وعلى الرغم من النظرة النمطية لإنسان نياندرتال بأنه عاجز عن التغيير، يتقبل العديد من الباحثين الآن أنه كان قادرًا على الابتكار.
وكذلك يُجمع الباحثون على أن إنسان نياندرتال كان يدفن موتاه (كتاب «البشر المنقرضون»، بيزك بوكس، ٢٠٠٠). وبالإجماع أيضًا، يقع أقدم قبر للإنسان العاقل في مغارة السخول في جبل الكرمل بإسرائيل، ويرجع تاريخه إلى قبل حوالي ١٢٠ ألف سنة. وعُثر على مدافن إنسان نياندرتال في العديد من المواقع، منها لاشابل-أُو-سان في فرنسا، حيث تم دفن «الإنسان الغابر» في التربة الملونة منذ حوالي ٦٠ ألف سنة، وتيشك تاش في أوزبكستان، حيث دُفن صبي عمره ٩ سنوات محاطًا بقرون الوعل الجبلي قبل حوالي ٧٠ ألف سنة (دورية أمريكان جورنال أوف فيزيكال أنثروبولوجي، المجلد ٣، صفحة ١٥١). وعُثر على قبور ١٠ أشخاص في كهف شاندر في العراق يرجع تاريخها إلى نحو الوقت نفسه. ويشير إيان تاترسال — الذي يعمل في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك، ومؤلف كتاب «البشر المنقرضون» — إلى أن إحدى هذه المقابر تكشف عن رعاية إنسان نياندرتال لفرد مصاب لمدة سنوات قبل وفاته، مما يقدم «دليلًا افتراضيًّا قويًّا على وجود التعاطف والاهتمام داخل المجموعة الاجتماعية، وربما على الأدوار الاجتماعية المعقدة.»
ويحتوي كهف شاندر أيضًا على «مقبرة الزهرة» الشهيرة. ويُستشهد أحيانًا بزيادة تركيز حبوب اللقاح الصادرة من النباتات الطبية في هذه المقبرة كدليل على الشامانية والمراسم الجنائزية التي مارسها إنسان نياندرتال. وعلى الرغم من الجدل الثائر حول هذا التفسير، فقد لاقت قدرة إنسان نياندرتال على التفكير الرمزي الدعم مؤخرًا. وعثر شواو زِلياو — من جامعة بريستول بالمملكة المتحدة — وفرانسيسكو ديريكو — من معهد جيولوجيا عصور ما قبل التاريخ والعصر الرباعي في تالونس بفرنسا — على أصداف بحرية مثقوبة وأصباغ حمراء وصفراء وأصداف ملونة بخليط من عدة أصباغ في اثنين من الكهوف في إسبانيا، يبعد أحدها ٦٠ كيلومترًا عن البحر. ويزعم كلاهما أن هذا يبين أن إنسان نياندرتال كان يزين نفسه بمشغولات رمزية تمثل ابتكارات إنسان نياندرتال المستقلة؛ إذ يعود تاريخها إلى قبل ٥٠ ألف سنة؛ أي قبل وجود الإنسان الحديث في المنطقة (دورية بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز، المجلد ١٠٧، صفحة ١٠٢٣).
غير أنه من المسلَّم به أنه لا يوجد دليل على أن إنسان نياندرتال رسم على جدران الكهوف، ولكن يشير زِلياو إلى أن رسومات البشر الأولى على جدران الكهوف بدأت منذ حوالي ٢٠ ألف سنة فحسب، بعد فترة طويلة من انقراض إنسان نياندرتال. ويقول إنه بدلًا من الرسم على الجدران ربما ابتكر إنسان نياندرتال أعمالًا فنية زال ما تبقى منها على نحو أسرع، مستخدمًا الأصباغ لتزيين جسده وإرسال معلومات رمزية حول عضويته في المجموعة الاجتماعية.
كثيرًا ما يرتبط التفكير الرمزي بسمة إنسانية مميزة أخرى، هي اللغة. إذن، فهل يوجد أي دليل على أن إنسان نياندرتال استطاع التكلم؟ يظن ذلك رالف هولواي، من جامعة كولومبيا في نيويورك. فقد درس مئات قوالب المِخاخ التي وُضعت في جماجم حفريات إنسان نياندرتال، واكتشف أن حجم المخ لا يقل عن حجم مخ الإنسان الحديث إلا بنسبة مئوية ضئيلة، وذلك رغم كبر جسده. وعلى الرغم من حاجبَيْه المائلَيْن، كان لديه فصٌّ جبهي ومناطق مسئولة عن ملكة التكلم مثلنا.
وفضلًا عن هذه القرائن التلميحية المادية، تكشف الاختبارات الجينية عن امتلاك إنسان نياندرتال نسخة من جين يسمىFOXP2، وهو الجين المقترن باللغة لدى البشر (دورية كَرنت بيولوجي، المجلد ١٧، صفحة ١٩٠٨). وفي الوقت نفسه، توضِّح حفريات من كهف كيبارا في إسرائيل أن العظم اللامي — عظمة على شكل حرف U الإنجليزي في الرقبة تثبت عضلات التكلم الرئيسية — لدى إنسان نياندرتال يتطابق مع عظمنا. وعن ذلك يقول هولواي: «أنا على يقين أنهم كانوا يتواصلون باستخدام اللغة.»
ويرى فيليب ليبرمان — لغوي من جامعة براون في بروفيدانس، رود آيلاند — أن إنسان نياندرتال كان يتكلم. ومع ذلك، يشير إلى أنه قبل حوالي ٥٠ ألف سنة لم يكن في مقدور إنسان نياندرتال ولا الإنسان الحديث إنتاج مجموعة الأصوات الكاملة التي ننتجها اليوم (مجلة إكسبيديشن، المجلد ٤٩، صفحة ١٥). وبعد أن درس جماجم عمرها بين ١٫٦ مليون سنة من الإنسان منتصب القامة وصولًا إلى جماجم عمرها ١٠ آلاف سنة من الإنسان العاقل، توصَّل ليبرمان إلى أنه لم يكن أيٌّ من النوعين قادرًا على إنتاج أصوات حروف العلة الموجودة في المقاطع «سي» و«دو» و«ما»، ويدعم هذا الأمر المحاكاة الحاسوبية التي أجراها روبرت مكارثي في جامعة فلوريدا أتلانتيك في بوكا راتون.
وفي ظل هذه الأدلة المتراكمة، يلخص إريك ترينكاوس — من جامعة واشنطن في سانت لويس بميزوري — لأنصار التعديلية المسألة كلها بقوله: «إذا ألقيت نظرة على السجل الأثري لإنسان نياندرتال في أوروبا والإنسان الحديث في أفريقيا أو الشرق الأدنى في الفترة الزمنية نفسها، ستجد أنهما متشابهان بشكل ملحوظ مع وجود استثناءات نادرة. فقد كان إنسان نياندرتال إنسانًا مثلنا، وربما كانت لديه مجموعة القدرات العقلية نفسها التي لدينا.»
هل انتهى الجدل عند هذا الحد؟ قد تعتقد ذلك، ولكن لا يزال يوجد بعض الباحثين الذين يختلفون مع هذا البحث الشامل الجديد. فيقول بول ميلرز الباحث في جامعة كامبريدج: «انفصل إنسان نياندرتال والإنسان الحديث منذ ٥٠٠ ألف سنة، وتطورا على نحو مستقل في أوروبا وأفريقيا. تراكميًّا، يمثل هذا مليون سنة من التطور. وسيكون صادمًا أن لا تحدث تغييرات في مِخاخهم وفي أجسادهم من الناحية التشريحية.» ويرى أيضًا أن الاختلافات المعرفية بين هذين النوعين لها أساس بيولوجي، كما أنها جوهرية.
دعم هذه الحجة استكشافُ جزء من جينوم سلالة إنسان نياندرتال، الذي أُعلنت نتائجه في شهر مايو من هذا العام. فرغم أن الفرق بين جينوم البشر اليوم وجينوم إنسان نياندرتال أقل من ١ بالمائة، فإنه يعادل الطفرات التي تتعرض لها مئات الجينات. وكم كان إبراز هذه الاختلافات صعبًا، ويرجع ذلك إلى أن إعادة بناء الجينوم لم تكتمل بعد. وحتى مع ذلك، يرى يوهانز كراوزه — الباحث بجامعة توبنجن في ألمانيا — أنه من بين تلك الاختلافات التي تم تحديدها حتى الآن، يوجد العديد منها في جينات مسئولة عن وظائف المخ والإدراك، بما في ذلك المهارات الاجتماعية ومهارات العلاقات. فيقول: «قد يكون هذا هو الجانب الاجتماعي الذي يختلف فيه إنسان نياندرتال عن البشر حقًّا.»
يأتي المزيد من الدعم من دراسة أجراها فيليب جَنز وزملاؤه في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيج بألمانيا. وأشارت مقارنة لهم، بين إعادة بناء جمجمة إنسان نياندرتال حديث الولادة — افتراضيًّا — وجمجمة رضيع إنسان حديث، إلى أن المِخاخ كانت متشابهة عند الولادة، ولكن تطورت على نحو مختلف خلال السنة الأولى من العمر، وهي فترة حاسمة بالنسبة للتطور المعرفي (دورية كَرنت بيولوجي، المجلد ٢١، ص ر-٩٢١).
ووفقًا لآراء بعض الباحثين الموقرين، قد يكون لإنسان نياندرتال أوجه قصور معرفية أخرى. يقول لويس بينفورد — من الجامعة الميثودية الجنوبية في يونيفرسيتي بارك بولاية تكساس — إن أنماط حياته تُظهر قليلًا من التخطيط المسبق. ويعتقد وين أن لديه سعة ذاكرة عاملة أقل من الإنسان الحديث، مما يحدُّ من كمية المعلومات التي يمكنه معالجتها في وقت معين. ويضيف قائلًا: «سعة الذاكرة هي أحد الأشياء المسئولة عن افتقاره الصارخ للابتكار.» ويسلم ستيفن ميثن — من جامعة ريدنج بالمملكة المتحدة — بامتلاك إنسان نياندرتال القدرات الحديثة في معرفة العالم الطبيعي، واستخدام المواد، والتفاعل الاجتماعي. ومع ذلك، يعتقد أنه كان يفتقر إلى «المرونة المعرفية» و«القدرة على استخدام الاستعارات المجازية» المطلوبة لربط هذه المجالات، مما يجعله غير قادر على إنتاج أشياء رمزية معقدة (كتاب «إنسان نياندرتال الغنَّاء»، مطبعة جامعة هارفرد، ٢٠٠٦). وميلرز غير مقتنع أيضًا أن إنسان نياندرتال كان قادرًا على التفكير الرمزي الذي يستنتجه زِلياو من المشغولات الصدفية التي عثر عليها في إسبانيا. ويضيف قائلًا: «أعتقد أن وجهة نظر زِلياو مغلوطة تمامًا؛ فإذا كانت هذه هي أفضل الأشياء التي فعلها إنسان نياندرتال عبر ٢٥٠ ألف سنة في أوروبا بأكملها، إذن فهو يستحق الشفقة!»
مع ذلك، ففي أغلب هذه الفترة، لم يكن الإنسان الحديث الأول مبتكرًا أيضًا. حتى ميلرز يقبل أن هناك بعض الاختلافات بين إنجازات الإنسان الحديث وإنجازات إنسان نياندرتال حتى حوالي ٥٠ ألف سنة ماضية. على الرغم من ذلك، كان الإنسان الحديث يمضي في سبيله عند هذه المرحلة للأمام، وشهد نشاطه الرمزي «نجاحًا عظيمًا» متجسدًا في التماثيل المنحوتة، والمراسم الجنائزية المتقنة، ووفرة من أدوات الزينة الشخصية، وأخيرًا رسومات متقنة على جدران الكهوف. ويزعم ميلرز أنه بحلول الوقت الذي دخل فيه الإنسان الحديث أوروبا، كان يمتلك تقنيات أفضل وتنظيمًا اجتماعيًّا أفضل وعقولًا أفضل، مضيفًا: «كان إنسان نياندرتال يلعب أمام فريق أفضل منه.»
يتفق عالم الأنثروبولوجيا ريتشارد كلاين — من جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا — مع ذلك؛ فيعتقد — على غرار ميلرز — أن تغيرات جينية كبيرة تكمن وراء الازدهار المعرفي والرمزي الذي شهده الإنسان الحديث، قائلًا: «يعتقد بعض الناس أنه من العنصرية قول إن إنسان نياندرتال أو البشر الأوائل يختلفون عنَّا وراثيًّا. وقد اتُّهمتُ بانتقاد إنسان نياندرتال، كما لو كنتُ أحاول إبعاده عن الالتحاق بجامعة هارفرد.» مع ذلك، يصر كلاين على موقفه، ويضيف: «تلك الجينات الحديثة على نحو فريد يمكن أن تساعد في تفسير سبب انقراض إنسان نياندرتال.»
بالنسبة للتقليديين، هذا هو جوهر النقاش: انقرض إنسان نياندرتال، في حين أننا لا نزال موجودين بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولكن يبدو أن أنصار التعديلية هم من يضحكون أخيرًا. ربما لم يعد إنسان نياندرتال يعيش بيننا بجسده، ولكن جيناته تعيش فينا؛ إذ تمثل ما يقدر ﺑ ٤ بالمائة من جينوم أي شخص من أصول غير أفريقية. وهذا يعادل الجد الثالث (انظر الجزء المعنون ﺑ «ما يقوله الحمض النووي» أدناه).
يتضح هذا أكثر بوضع حجم شعب إنسان نياندرتال في الاعتبار؛ إذ يدل التباين المحدود في الحمض النووي المُتَقَدِّرِيِّ لهم على الوجود المستدام — فيما بينهم — لعدد من الأشخاص القادرين على الإنجاب يصل إلى ٣٥٠٠ فرد فقط. وكما يشير زِلياو، كانت الذخيرة الوراثية لدى الإنسان الحديث في أفريقيا أكبر من ذخيرة إنسان نياندرتال بأضعاف كثيرة. ويضيف قائلًا: «ماذا يحدث عند خلط لتر واحد من الطلاء الأبيض مع ١٠٠ لتر من الطلاء الأسود؟ تحصل على ١٠١ لتر من الطلاء الأسود. وهذا ما وجده علماء الوراثة.»

ما يقوله الحمض النووي

في مايو ٢٠١٠، أعلن فريق بقيادة ريتشارد جرين — من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز — وسفانته بابو — من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيج بألمانيا — عن إنجاز مدهش؛ فمن شظايا العظام المتحجرة لثلاثة أفراد من سلالة إنسان نياندرتال، عاشوا قبل ٤٠ ألف سنة فيما يعرف الآن بكرواتيا، أعاد الفريق تجميع ٦٠ بالمائة من جينوم إنسان نياندرتال، وقدموا أول مقارنة جينية مفصلة بين إنسان نياندرتال والإنسان الحديث (مجلة ساينس، المجلد ٣٢٨، صفحة ٧١٠).
ومن خلال الاستنتاجات المستقاة من تسلسلات الجينوم المتاحة، يرى الفريق أن إنسان نياندرتال والإنسان الحديث مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، كارتباط أي اثنين من البشر على قيد الحياة الآن: فربما تشاطر أنت نفسك ٩٩٫٩ بالمائة من حمضك النووي مع إنسان آخر مُنتقى عشوائيًّا، وتشاطر ٩٩٫٨ بالمائة منه مع إنسان نياندرتال. وهذا يعكس وجود أسلاف مشتركين بيننا وبينهم، انفصلنا عنهم منذ حوالي ٥٠٠ ألف سنة.

نوعان أم نوع واحد؟

ومع ذلك، المفاجأة الأكبر هي أن الأشخاص من أصول غير أفريقية أكثر شبهًا بإنسان نياندرتال من الأفارقة، مما أوصل الباحثين إلى استنتاج أن ما بين ١ و٤ بالمائة من الحمض النووي لكل الأشخاص من أصول غير أفريقية تأتي مباشرة من إنسان نياندرتال. والطريقة الوحيدة التي حصل من خلالها غير الأفارقة في جميع أنحاء العالم على هذه الجرعة من الحمض النووي لإنسان نياندرتال هي أن الإنسان الحديث الذي ترك أفريقيا تزاوج مع إنسان نياندرتال قبل الانتشار في بقية العالم، وهو الأمر الذي يعتقد الباحثون أنه حدث في الشرق الأوسط منذ حوالي ٤٥ ألف سنة. لم يكن هذا متوقعًا؛ إذ لم تُظهر الدراسات السابقة للحمض النووي المُتَقَدِّرِيِّ لإنسان نياندرتال وكروموسوم Y أية علامات على التزاوج مع الإنسان الحديث.
وبالمثل، فإنَّ الحمض النووي الذي يميزنا عن إنسان نياندرتال مثير للاهتمام؛ إذ تتشارك كل سلالة الإنسان الحديث نفسَ تسلسلات الحمض النووي المكون من ٧٨ جينًا و٢٠٠ امتداد جينوم أطول، ولا ينطبق ذلك على سلالة إنسان نياندرتال. وتمثل هذه الجينات وامتدادات الجينوم الطفرات التي حدثت في السلالة البشرية بعد أن انفصلت عن سلفنا المشترك. وتشمل التسلسلات جينات تؤثر على الوظائف الحسية والإدراك والتفاعل الاجتماعي والتمثيل الغذائي والمناعة. ويشير جرين: «لا نفهم حتى الآن كيف تختلف وظائف المخ والإدراك بالضبط، ولكننا نعرف الآن الوجهة التي سنقصدها لتحديد كيفية الاختلاف.»
لم يتوقع أي شخص قط وجود جين واحد يميز إنسان نياندرتال عنا، ومع ذلك دُهش الباحثون بسبب عامل النسخ الجيني RUNX2. فطفرة واحدة في RUNX2 تسبب مجموعة من التغييرات الهيكلية، بما في ذلك عظام القوس الحجابية في صدفة الجبهة والصدر جرسي الشكل اللذين يميزان إنسان نياندرتال. ويقول بابو: «إنه لأمر مثير للغاية؛ فربما يكون جين واحد هو ما يعكس حقًّا ما تراه في السجل الأثري.»
كان البعض يأمل أن تحل مقارنة الجينوم الجدلَ الدائر منذ ١٥٠ سنة حول ما إذا كان إنسان نياندرتال والبشر ينتميان إلى نفس النوع. فرغم كل شيء، فإنه من تعريفات الأنواع المتمايزة أنها لا يمكن أن تتزاوج وتنتج ذرية خصبة. ولكن لم ينخرط بابو في هذا الجدال؛ وقال: «أعتقد أنه عندما يتعلق الأمر بجماعات وثيقة الصلة مثل إنسان نياندرتال والبشر، فإن مثل هذه التعريفات تزيد الارتباك ولا توضح شيئًا، إنما تعمل فقط على إثارة اهتمام الناس دون سبب يدعو لذلك.»

أسباب الانقراض

يبدو أن كل شخص لديه فكرة مختلفة عن سبب انقراض إنسان نياندرتال: فأولئك الذين يرونه من الفصائل الأدنى يظنون أن المُلام في هذا الأمر هو الإنسان الحديث الأول الأكثر ذكاء، والأكثر قدرة على الكلام والتكيف، والأكثر اجتماعية؛ إذ تفوق على إنسان نياندرتال من حيث استخدام الموارد والتنظيم والنجاح في التناسل، إن لم يكن السبب هو المواجهة المباشرة بينهما. وفي الوقت نفسه، فأولئك الذين يعتقدون أن إنسان نياندرتال كان ذكيًّا مثل البشر الأوائل يُرجعون عادةً السبب إلى تغير المناخ والكوارث الطبيعية والاختلافات الثقافية التراكمية. على سبيل المثال، في كتاب «المنقرضون من البشر» (مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠٠٩)، يشير كلايف فينليسون إلى أن بنية إنسان نياندرتال القوية المكتنزة وأسلوب الصيد الذي كان يتبعه في المناطق المجاورة فقط جعلا وجوده مقتصرًا على بيئة محدودة، وجعلاه — على نحو متزايد — عرضة إلى تدهور المناخ وزواج الأقارب والأمراض والمنافسة. ويعتقد كريس سترينجر — الباحث في متحف التاريخ الطبيعي في لندن — أن المجموعة الأخيرة من إنسان نياندرتال لم يحالفها الحظ فحسب: «إذ كانت هذه الفترة واحدة من أكثر فترات عدم استقرار المناخ على الأرض. فكان عليهم التكيف مع هذه التغيرات، ولكن كان بصحبتهم أنواع متنافسة معهم، فأضحى الأمر أشبه بالضربة المزدوجة التي نالت منهم فانقرضوا.»

نيكولاس كار : درس في الصبر الإستراتيجي


بما أني لست معلِّمًا، فإنني أتوخى الحذر في إبداء النصيحة التربوية (أعتقد أن قاعات الدراسة أماكن أكثر تعقيدًا مما يمكنني أن أتخيل). لكن أتمنى أن يقرأ كثيرٌ من المعلمين مقال جينيفر إل روبرتس أستاذ تاريخ الفن بجامعة هارفرد، والمقتبَس من كلمة ألقتها في مؤتمر تعليمي في وقت سابق من هذا العام. تبدأ روبرتس كلمتها بالإشارة إلى تحوُّل حديث في طريقة تخطيطها لدروسها:
خلال السنوات القليلة الماضية، بدأتُ أشعُر بحاجتي إلى أن أقوم بدور أكثر فاعلية في تشكيل الخبرات «الزمنية» للطلبة في المقررات الدراسية التي أدرِّسها؛ بمعنى أنني أثناء قيامي بعملية تخطيط منهجٍ بعينه، لا أحتاج فقط إلى اختيار القراءات وانتقاء الموضوعات وتنظيم تسلسُل المادة فقط، بل وأحتاج كذلك إلى هندسة «سرعة» و«إيقاع» خبرات التعلُّم بإتقان ووضوح. متى سيعمل الطلاب بسرعة؟ ومتى سيعملون ببطء؟ ومتى يُتوَقَّع منهم تقديمُ إجابات تلقائية؟ ومتى يُتوَقَّعُ منهم استغراق وقت في التفكير على مستوى أعمق؟
وتضرب روبرتس مثالًا رائعًا للكيفية التي تتبعها في إجراء هندسة الخبرات التي تقع «على الطرف البطيء من مقياس الإيقاع هذا»:
في كل مقررات تاريخ الفن التي أُدرِّسها — سواء لطلاب المرحلة الجامعية أو لطلاب الدراسات العليا — أنتظر من كل طالب أن يكتب بحثًا مُفَصَّلًا حول عمل فني واحد من اختياره. وأول شيء أطلب منهم فِعلَه في عملية البحث هو قضاء وقت طويل جدًّا في النظر إلى العمل موضوع البحث. لنَقُل إن طالبًا أراد استكشاف العمل المشهور في الأوساط العامة باسم «الصبي والسنجاب»؛ اللوحة المرسومة في بوسطن عام ١٧٦٥م بريشة الفنان الشاب جون سينجلتون كوبلي. هكذا قبل البحث في الكتب أو على الإنترنت، أنتظر من الطالب أولًا أن يذهب إلى متحف الفنون الجميلة، حيث تُعرض اللوحة هناك، ويقضي ثلاث ساعات كاملةً في تأمُّل اللوحة، مدوِّنًا الملاحظات التي تطرأ على ذهنه، إضافة إلى الأسئلة والآراء التي تنبثق من هذه الملاحظات. تعمدتُ على نحو واضح أن أحدِّد هذه الفترة الزمنية لتبدو طويلة. أيضًا بيئة الأرشيف أو المتحف محورية بالنسبة للتمرين؛ إذ إنها تُبعِد الطالب عن بيئته وعوامل التشتيت اليومية.
في البداية، يرفض كثير من الطلاب الخضوع لمثل هذا التمرين العلاجي. فكيف يمكن أن يكون هناك حدث مهم ومعلومات تستحق ثلاث ساعات في هذه اللوحة الصغيرة؟ كيف يمكن أن تكون هناك أشياء تراها وتفكِّر فيها في عمل فني واحد تستحق ثلاث ساعات؟ لكن بعد أداء التمرين، لا يَنْفَكُّ الطُّلَّابُ يخبرونني أنهم يندهشون من الطاقات الكامنة التي أطلقتها هذه العملية … ما يوضِّحه هذا التمرين للطلاب هو أن مجرد «النظر» للشيء لا يعني أنك «رأيته»؛ فالقدرة على إبصار الشيء الآن لا تعني إدراكه فورًا. أو بوجه أعم قليلًا، حرية الوصول إلى معلومة ليست مرادفًا لتعلُّمها. فما يحوِّل حرية الوصول للمعلومات إلى تعلُّم هو الوقت والصبر الاستراتيجي.
رأيي بجدية: عليكم أن تقرءوا المقال بالكامل حتى وإن لم تكونوا معلِّمين، فستعرفون الخلفية الدرامية للوحة «الصبي والسنجاب» التي تقول روبرتس «إنها تجسيد للتمهُّل الذي رُسِمت من أجل أن تطيقه»، وتلمِّح إلى الكيفية التي «نُسِج بها الإدراك البشري — بدرجة ما — من خيوط التمهل والتأخر والانتظار.»
A Lesson in Strategic Patience by Nicholas Carr. Rough Type. November 3, 2013.

مي زيادة : الحركة النسائية عندنا (٤): خلق المرأة - جريدة المحروسة ١٢ فبراير ١٩١٩



قضى خالد الأثر جورج بك زيدان منذ سنواتٍ خمسٍ تقريبًا، ولو وقع «الهلال» بين يدي من جهل ذلك لظل واثقًا بأن مُنشِئَ «الهلال» حيٌّ، وظنَّ أنه أوقف نشر رواياته التاريخية حينًا لغرض مقصود، إن محل زيدان الكبير قد ملأه نجله الفتى حتى لم يترك فيه قيراطًا خاليًا، وهذا أحسن ما يقال في وصف الكاتب الذي نقل إلى العربية كتاب «خلق المرأة».
الكتاب مختصر مفيد يبحث في صفحات المرأة وعيوبها، وكأنما مؤلفه مسيو ماريون ينسب كلًّا من سجاياها الحسان إلى طبيعتها النسائية، أما العيوب فيعترف بأنها نتيجة ما ذاقته من ضغط واستبعاد، وقاسته من امتهان وألم، حجب الرجل عنها النور كل هذه القرون فضعف منها الجسم والعقل، ونمت الأنانية وتطرفت قوة الشعور حتى كادت تكون داء، عقلها لا ينفذ إلى ما وراء الظواهر، وذكاؤها «وثاب» لا يصبر على التعمق والاستقصاء، وإدراكها لا يحفل بغير الأشياء السطحية القريبة التي لها بها علاقة ماسة، أما حبها لذاتها فقد ربَّى فيها عيوب الكذب والتضليل والخداع والتظاهر بعكس ما في نفسها لتهدئة غضب الرجل واكتساب رضاه ومحبته، وبعد تقرير ذلك يقول الكاتب إن كل هذه العيوب نتيجة تربيتها الماضية، ويؤكد أن الرجل لو كان مكانها وقاسى ما قاست من امتهان الحقوق والعبودية لكان اليوم دونها منزلة معنوية.
لمَّا قرأت هذا شعرت بأن مسيو ماريون رجل بلا أقل ريب، وأن هذه العيوب التي وجدها عالمنا هذا في المرأة حتى كادت تصبح جزءًا من خلقها، موجودة كلها في خلق الشعوب المستعبدة، فمن ذكاء سطحي لا يتناول إلا القريب المحسوس، ومن تَظَاهُر بما ليس في النفس للمخادعة والتضليل إلى ثرثرة دائمة كانت وستظل أبدًا شعارًا للفكر الضيق والعقل القليل، كلُّ ذلك في أخلاق العبيد، وكيف يُنتَظَرُ غير ذلك من رجال لم يرضعوا إلا لبن العبودية؟ المرأة التي تتربى الشعوب على ركبتيها تطبع الشعوب بطابع نفسها، فإذا كانت عبدة كان ذووها عبيدًا محتقرين، وإذا كانت سيدة حُرَّة قامت أمَّتُها عالية الجبهة بعيدة الغاية؛ لأن الأم أنضجتها لحياة الحرية والفخار.
ومن العجيب أن بعض الرجال يخافون أن تفقد المرأة عيوبها إذا نالت من العلم والتربية نصيبًا، يخافون على ثرثرتها التي دفعت بهم إلى هجر منازلهم إلى البارات والحانات، يخافون أن تتسع مداركها فتوفر عليهم نصف المسؤولية وتساعدهم على قضاء حاجاتهم مُخفِّفَةً عنهم عبء الحياة، يخافون أن تفقد قوة الغش والمخادعة والتظاهر بالبكاء والخوف، كأنَّما هم ينهلع منهم القلب إذا كانوا محبوبين حقيقة لذاتهم ولا يريدون إلا حبًّا ولطفًا وخضوعًا وطاعة بالتمثيل والتخييل، فلذلك يكرهون «النساء العالمات ذوات الشخصية البارزة»، كأنما ليس للمخادع الكاذب من شخصية بارزة!
إن هذه الكلمة التي أراد بها مسيو ماريون التعبير عن شعور بعض المتقهقرين، لا يقولها إلا فئة مخصوصة، وهي التي تكره العالم ولو كان رجلًا مثل مسيو ماريون نفسه، ومن النساء كثيرات يشعرن بمثل ذلك، اقرأ كتب قاسم أمين وأمثاله تعلم أي نوع منهن يكره العلماء، أما أكثرية الرجال فإنها ينشرح منها الصدر وتطرب النفس لارتقاء المرأة ويرضيها باب المسابقة المفتوح، وجهاد المرأة التي كانت بالأمس «شيطانًا جميلًا» و«حيوانًا لطيفًا» يخلق عند أكثر الرجال قوة جديدة للجهاد بينا هو يحبو الحياة معنى أنيسًا ويسكب عليها البسمات فينسى الرجل الكد والتعب ولا يَجِدُ في الجهاد إلا سرورًا، وإذا كان الرجل راقيًا جدًّا قال ما قاله بالأمس جون ستيورت مل، وما يقوله اليوم لويد جورج والدكتور ولسن، وما قاله مسيو ديولا فوا ومركز زوجته العلمي لا يقل عن مركزه، ومسيو كوري الذي عرف الشرقُ والغربُ تفوُّقَ زوجته، الرجل الراقي يسعد بالمرأة العالمة كما سعد أدمون روستان بامرأته، ومكانتها بين شاعرات المغرب تضاهي مكانته بين شعرائه، وكما سعد هرشل الفلكي الشهير بشقيقته كارولينا هرشل التي كانت أكبر مساعد له في أبحاثه وأرصاده، وقد اكتشفت مثله نجومًا وأقمارًا، ويعترف بفضلها اعتراف پول آدم بفضل والدته الشهيرة جولييت آدم التي بثَّت فيه حب الأدب ورفعته إلى مركزه السامي بين كُتَّاب فرنسا، ثم إن النوابغ بين الرجال قليلون جدًّا، فلماذا يخشى الرجال أن تملأ نوابغ النساء الشوارع والمنازل؟ والحقيقة أن اعتراض الرجل ما زال مبهمًا ولو تعمده ناقد لهدمه حرفًا حرفًا.
وأعتقد أن اختلافهما يزول مع الزمن يوم يرتقيان معًا فيريان معاني الحياة متسعة أمامهما، أما الأناقة والكياسة التي يخاف الرجل أن تفقدهما المرأة في العلم والدرس فهو أمر مضحك، تُرى هل يعدم المرء طبيعته إذا قلَّ جهله؟ المرأة تظل امرأة دائمًا سواء كانت متعلمة أو جاهلة، غير أنها إذا ارتقت ارتقت منها مظاهر الأنوثة، وقد لاحظ ذلك كُتَّاب فرنسا في المؤتمر النسائي المنعقد في باريس قبيل الحزب فقالوا إن أجمل أثواب ذلك الفصل وجدت في ذلك الاجتماع، وأفخر البرانيط كانت على رأس الخطيبات اللائي تكلمن مطالبات بحقوق النساء، وأكثرهن من المتزوجات المشهورات بمساعدة أزواجهن وإسعاد ذويهن، إن مسيو ماريون يقول بتعليم المرأة وتثقيفها وفتح جميع أبواب العمل أمامها لأن عندها لذلك الأهلية الكافية، وقال إن صفاتها وملكاتها الفكرية والعلمية تنمو بالاستعمال ولكنه أراد إقفال باب السياسة في وجهها مع أنه اعترف في فصل سابق بوجوب اشتراكها في التشريع وسن القوانين المنوطة بجنسها، يهمنا كثيرًا أن ينال الجنس النسائي حظوة في عين مسيو ماريون وفي عين أترابه العلماء، وأن تحوز المرأة اهتمامهم ورضاهم، ولكن ما العمل وقد شاءت الحياة غير ما يبتغون! فقد فتحت الأمم مجالسها النيابية للنساء وما ارتفعت المرأة في أمة وتبوأت كراسي العلم والقضاء والحكم والنيابة إلا ظهر في ذلك القطر تحسُّنٌ محسوس في حالة الشعب وقلَّ عدد الجرائم وبرزت آثار الإصلاح الذي لا تقدر عليه إلا يد المرأة، فما أسف شعب لارتقاء المرأة الذي حدا به إلى السعادة، وسوف تنال المرأة في المستقبل أكثر مما هي اليوم نائلة.
ولما نطبق كتاب «خلق المرأة» وما يتبعه من تاريخ الحركة النسائية في العالم؛ نرى نفسنا بعيدين عن المرأة الشرقية الذليلة التي ما زالوا يريدونها «حيوانًا لطيفًا»! فنرثي لحالها وحال الشرقيين النائمين الهابطين بهبوطها، وبودي لو أصرخ قائلة: أفيقوا! أفيقوا!
فشكرًا لزيدان أفندي الذي أبرز هذا الكتاب إلى عالم الأدب وفيه صورة جليلة لموقف المرأة ذلك الموقف السامي الذي يشرفها ويشرف الرجل معها، وبه نرى طريق الإصلاح، ومن فصوله ما يحث المرأة المكتفية بالزوزقة والزركشة والثرثرة على العمل، إذ ينبئها بانقضاء وقت الجهل والظلام وبحلول زمن سعادتها بإسعاد الجنس البشري وتحريره بتحريرها.

محمد لطفي جمعة : تفسير عظمة الحجاج بن يوسف الثقفي: تعقيبًا على بحث في تفسير طغيانه - مجلة الكتاب أغسطس ١٩٤٦


كتب الأديب الفاضل الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك، في عدد يونيو سنة ١٩٤٦ من مجلة الكتاب الغراء، بحثًا طريفًا عن الحجاج بن يوسف الثقفي، يريد به تفسير طغيان هذا الحاكم الجبار، وهو يعلل طغيانه الذي سجله بعض مؤرخي العرب بدمامته وضعف جسمه، وقصر قامته واعتلال صحته، والتواء نفسه وثورته على المجتمع ونفور النساء منه، ومرضه بالسرطان المعوي أو المعدي، ولا ندري كيف وصل الأستاذ الأديب إلى تشخيص هذا المرض ما لم يكن مرجعه الكاتب الفرنسي جان پرييه، فإذا كان الحجاج مات في الثانية والخمسين من عمره فلا يقوم هذا دليلًا على وفاته بهذا الداء.
وإنما أراد الأستاذ الفاضل أن يبحث عن مفتاح حياة الحجاج على الطريقة الحديثة حتى اهتدى إلى تعليل قسوته وظلمه بما وصفه سيجموند فرويد بالعقدة النفسية الناشئة عن مركب النقص، وهذا فتح جديد في تطبيقه على تراجم مشاهير العرب، وإن بعدت المسافة وتطاولت الدهور بيننا وبينهم، وقد لاح لي أن تاريخ العرب كما كتبه المؤرخون لا يصلح أن يكون مرجعًا علميًّا في مثل هذه المسألة الدقيقة؛ لأن تاريخ العرب انقلب في أيدي المؤرخين لونًا من الأدب المكتوب، وقد تصلح الدراسة النفسية في حالة الأحياء والمتعاصرين لسهولة الرجوع إلى المصادر الوثيقة، وأضرب مثلًا لذلك ما كتبه النقاد الفرنسيون في تراجم بول فيرلين وشار بودلير، وهما من مفاليك شعراء القرن التاسع عشر، ولم تمنعهما الفلاكة وإدمان الخمر وانحلال العصر وانحطاط الأخلاق عن بلوغ ذروة المجد الفني وتأسيس المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي، وقد نجح النقاد في التأريخ لهما؛ لأن الذين كتبوا عنهما عاصروهما وسجلوا سائر شئونهما، وتحروا الحقيقة في مصادرها، وأسهبوا إسهابًا بالغًا في الاغتراف من بحر الوثائق التاريخية الصحيحة.
أما الكتَّاب المحدثون أمثال إميل لدفيج الألماني وطنًا ولغةً، واليهودي جنسًا وملَّةً، فقد أفسد التراجم حين ابتدع لون التأريخ الرومنتيكي، بسرد حياة العظماء على صورة القصة الفنية، ومن قبل صنع ذلك توماس كارليل في حياة الأبطال، ولم يبلغ أحدهما شأو بلوطرخوس في تراجمه لكبار الإغريق والرومان؛ لأنه خلط الحقيقة بالخيال، وإن لم يترك شاردة ولا واردة من أخبار عظمائه إلا أحصاها، وهذه الطريقة الأدبية الفنية في كتابة التأريخ لا تصلح سندًا للثقافة الحديثة، مع الاعتراف بجمالها أو حذق مبتكريها، وكذلك العرب لم يحاولوا فيما أعلم تدوين تراجم دقيقة لأبطال الإسلام، ولم يتقنوا إلا تسجيل الأخبار القصيرة، وأطالوا في رواية الشعر، فكان في الأغلب المصدر الصحيح لسيرة الشعراء ومفتاح حياتهم، فضلًا عن أن المؤرخين أطاعوا أهواء الملوك.
***
وأحب أن أبادر بأن بعض كتَّاب العرب عرفوا مركب النقص ولكنهم لم يتخذوه وسيلة لتعليل معايب الأخلاق عند العظماء، وإنما ذكروه مشفوعًا بما اتخذه العظماء من وسائل في مقاومة عقدتهم النفسية ومحاربة مركب النقص، ليظهروا بمظاهر الكمال وتمام القدرة، ولم تكن المعايب البدنية سببًا في إغراقهم أو التواء أنفسهم، فقد كان زيد بن جندب أشفى أفلح، ولم يمنع هذان العيبان في فمه اشتهاره بالخطابة، ومن الخطباء من كان أروق وأشدق، أو أضجم أو أفقم، وهو اعوجاج في الفم وركوب السن الشفة، بل كان الأحنف الكبير على كثرة عيوب بدنه حكيم العرب وخطيبهم وحازمهم وباقعتهم ومقدمهم، قال عبد الملك بن عمير: «قدم علينا الأحنف الكوفة مع مصعب بن الزبير، فما رأيت خصلة تذم في رجل إلا وقد رأيتها فيه، كان أصعل الرأس (يعني دقيق الرأس، ودقة الرأس تدل من يحكم بظاهر الأمور على صغر العقل) أحجن الأنف، أغضف الأذن، متراكب الأسنان، أشدق مائل الذقن، ناتئ الوجنة (ونتوء الوجنة من أدلة الميل إلى الإجرام في رأي لمبروزو، مع أن الأحنف كان من حماة الفضيلة) باخق العين (أي أعور) أحنف الرأس (ومن هنا كان اسمه! …) ولكنه إذا تكلم أعجز وبهر، وفتن العقول وخلب الألباب، وأقر كل من سمعه عن قرب أو عن بعد بفصاحته ولباقته، وحكمته وجلال رأيه، وجمال نفسه، وكمال عقله، وذاع اسمه في الآفاق، وما يزال ذكره مقرونًا بالحلم وبالحكمة والهمة والعدل وفصل الخطاب.»
وكان واصل بن عطاء شيخُ المعتزلة الأشهر مصابًا بلثغة شديدة في حرف الراء ينطقها لامًا، فتجيء قبيحة؛ لأنها تحكي نطق الأطفال، والراء من أكثر حروف الهجاء ترددًا في الحديث والخطابة، ولكن رجاحة عقل واصل صانته عن زلل اللسان، فاستغنى في كلامه وخطبه عن الراء بتاتًا، حتى وصفه الشاعر بقوله:
ويجعل البُرَّ قمحًا في تصرفه
وجانَبَ الراء حتى احتال للشعرِ
ولم يطق مطرًا والقول يجعله
فعاد بالغيث إشفاقًا من المطرِ
وسأل أحد أتباع واصل: كيف كان يصنع في العدد بعشرة وعشرين وأربعين وكيف كان يصنع بالقمر والبدر ورمضان ورجب (وكلها ذوات راءٍ؟) فأجابه بشعر صفوان:
مُلقَّن ملهم فيما يحاوله
جمٌّ خواطره جوَّابُ آفاق
وقد ذكرنا هذا القليل من عيوب الذات والمنطق عند بعض فحول المشاهير، أمثال الأحنف وواصل بن عطاء وزيد بن جندب، لندلل على أن مركبات النقص كانت معروفة عند العرب، ولا سيما في القرن الأول الذي عاش فيه الحجاج، ولكنهم لم يعيروه التفاتًا، ولم يتخذوا منه سببًا لانحطاط الرجال أو تشويه أخلاقهم.
لقد عرف العرب كل مركبات النقص التي زعم فرويد أنه اكتشفها، وفي مقدمتها زلة اللسان Lapsus Lingue وهي من أدق مركبات النقص وأكثرها شيوعًا، كان محمد بن راشد البجلي يتغدى وبين يديه شبوطة (لون من الطعام) وخياط يقطع له ثيابًا، ورآه يلحظ الشبوطة، فقال ابن راشد: قد زعمت أن الثوب يحتاج إلى خرقة (أي تكملة من القماش) فكم مقدارها؟ فأجاب الخياط: ذراع في عرض الشبوطة (وهو يقصد في عرض القماش!) ودخل آخر على رجل يأكل أترجة بالعسل، فأراد أن يقول السلام عليكم، فقال: عسليكم (لانشغال باله بالعسل). ودخلت جارية رومية على راشد البستي لتسأله عن صحة زوجته، فبصرت بحمار في الدار فقالت: مولاي كيف … حماركم؟
وليست العبرة بذكر هذه الزلات الطارئة، ولكن العبرة بفطنة الأدباء إلى تدوينها واستنتاج ما يترتب عليها، وقد وصفوا الحجاج ورووا خطبه، وذكروا مظالمه وجبروته وشدته وتعسفه في الأحكام وقوة شكيمته، ولكنهم لم يحاولوا ربط تلك المعايب بما ظهر من الغلظة في أقواله وأفعاله، وإنما ذكروا القسوة والشدة في مجال التنديد بقوته وهو حاكم يسوس الخلق وينظم الدولة ويطفئ ثورة الخوارج ويردع البغاة وينفذ أوامر الخلفاء ويخضع للشريعة ويطيع القانون ويعامل كل محكوم بما يستحق في نظره، ولا يغيب عن ذهننا أن عصر الحجاج كان عصر فتنة وثورة وكان أعداء النظام والحضارة أكثر من الموالين لهما، والعرب في عنفوانهم حديثو العهد بالإسلام، قريبو الصلة بالجاهلية والحمية والأنفة والفطرة البدوية، وإلا فأين شدة الحجاج في القرن الأول الهجري من شدة جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك الأعرج، بل من طغيان هتلر وموسوليني وفرنكو وعشرات أمثالهم من رجال العصور الحديثة عصور المدنية والإنسانية؟
***
عابوا على الحجاج أنه كان معلم صبيان، وقد درج العامة على وصف المعلمين بالحماقة ظلمًا، ومن أمثالهم «أحمق من معلم كتَّاب!» وذكرهم صقلاب الشاعر بقوله:
وكيف يُرجى العقل والرأي عند من
يروح على أنثى ويغدو على طفل؟
وفي قول بعض الحكماء: «لا تستشيروا معلمًا ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء.» مع أن رعاة الغنم من أعقل الناس، وكان الأنبياء كلهم رعاة، وفي مقدمتهم إبراهيم الخليل، ثم إسحاق ويعقوب، وكذلك كان موسى، ومحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، رعى غنمًا في بطحاء مكة، ولم يبق لأمثال هذه الخرافة سبب ولا وجه يقبل، وإنما هي العداوات الشخصية وأحقاد المهنة ورغبة الانتقاص، والمعلمون في كل وطن أعلام الزمان ومصابيح الهداية، بيد أنه لم يثبت بصفة قاطعة أن الحجاج كان معلم كتَّاب ولكن أبوه كان معلمًا، ولم يصل داء التعليم إلى العدوى بالوراثة.
ثم إن كل قاضٍ مسلم في العصر الأول، وكل والٍ وكل قائد، كان فقيهًا، والفقيه معلم بطبيعته، وكان الحسن البصري من أعلام المتصوفة والفقهاء وأهل الحكمة والعدل معلمًا، وكذلك كان واصل بن عطاء، وكذلك كان سقراط وأرسطو وأفلاطون وكنت وهيجل، كما كان الغزالي وابن الهيثم أساتذة ومعلمين، وهم أئمة الفلسفة في المدنيتين الغربية والشرقية، ولم يتهمهم أحد بالحماقة، ولكن نار العداء التي أشعلها الحجاج بفصاحته وقوة بديهته وإقدامه وصرامة أحكامه، في زمن كانت فيه الصرامة واجبة لاستتباب أمور الدولة، حرَّكت الألسنة والأقلام للحملة عليه، ولم يقم أحد من المؤرخين المنصفين بردِّ اعتباره كما فعلوا في فرنسا في حق روبسبيير ومارات، وهما من أكبر الخطباء الأحرار والمصلحين الأبرار، ولكن عصرهما كان عصر فتنة، وكان أتباع الملكية وأنصار العهد القديم، عهد الاستبداد، أعزَّ مالًا ونفرًا، وأقدر على الكتابة والنشر وتدويخ خصومهم وتشويه سمعتهم حتى بعد موتهم.
***
فعلينا إن أردنا النقد التاريخي، وهو خير وبركة، أن نتبع أولًا طريقة البحث Méthode كما جلاها ديكرت في كتابه، وأفاض فيها هيجل في «فلسفة التاريخ»، وكما فعل أستاذ الأجيال ابن خلدون وتبعه وقلده بوكل الإنجليزي في «تاريخ الحضارة الإنجليزية»، وإن كانت الشهرة العامة عن قسوة الحجاج قد غلبته أحيانًا، لا يجوز لي أن أنسى أن الحجاج كان الدعامة التي قامت عليها الدولة الأموية، وهي أعظم دول الإسلام قاطبة، والأساس الذي كانت بدونه تنهار الدولة ولا تصل إلى العباسيين، ولا تدوم الحضارة في الشام والعراق ومصر سبعة قرون، إلى أن دمرها التتار بقيادة هولاكو، بيد أن الثورات التي نشبت في العراق نفسه، ولا سيما ثورتا شبيب الشيباني (٧٧ﻫ) وثورة ابن الأشعث (٨١ﻫ) لم يقو على القضاء عليها قائد ولا حاكم سوى الحجاج.
***
لم يعيبوا على الحجاج دمامته واعتلال صحته وسرطانه (؟!) ومهنة التعليم التي لم يمارسها وحسب، بل عابوا عليه أيضًا انتسابه إلى ثقيف! نعم إني لم أضمر حبًّا لأهل الطائف عاصمة ثقيف؛ لأنهم أساءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في يوم قائظ وهو يدعوهم إلى الإسلام، ولكن لا أعيب عليهم شدتهم في دفاعهم عن وطنهم في الحروب الأولى، ولا أنتقد تمسكهم بدينهم الوثني قبل أن يتثبتوا من حقيقة الإسلام، وعلى كل حال فلم يكونوا أكثر قسوة على النبي عليه الصلاة والسلام من أهله وقومه وبني وطنه وعشيرته الأقربين، وإن كانوا همُّوا بالردة فقد ارتد قوم من قريش مسقط رأس الرسول وموطن الخلفاء الراشدين، ولكن كلمة واحدة من عثمان بن عفان ردت ثقيفًا إلى رشدها، قال عيسى بن يزيد: «ولما همت ثقيف بالارتداد قال لهم عثمان: معاشر ثقيف، لا تكونوا آخر العرب إسلامًا وأولهم ارتدادًا فسمعوا وأطاعوا.»
أما فيما خلا هذا فقد كانت الطائف وما حولها، من أخصب الأرض وأكثرها خيرًا وأنبتها لنوابغ الرجال في الفروسية والشعر والشجاعة والسياسة، ولم يكن الحجاج عجبًا بينهم، بل كان من أهل المواهب المعروفة، لسبب طبيعة الأرض ونقاوة الإنسان وجمال الموضع وارتفاع الجبال، وجمال النساء، وعفة الرجال وحكمتهم.
قال عثمان بن أبي العاصي الثقفي لبنيه «يا بني قد أمجدتكم في أمهاتكم، وأحسنت في مهنة أموالكم، وإني ما جلست في ظل رجل من ثقيف أشتم عرضه، والناكح مغترس، لينظر امرؤ حيث يضع غرسه، والعرق السوء قلما ينجب ولو بعد حين.» فسمعه ابن عباس فقال: يا غلام اكتب لنا هذا الحديث. (رواية عيسى بن يزيد بن دأب في الأغاني).
ومن فحول شعرائهم أبو محجن الثقفي الشهير بقصيدته التي يقول فيها:
كفى حزنًا أن تطعن الخيل بالقنا
وأترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
***
وحقيقة الأمر أن الحجاج كان مكروهًا من أهل العراق وحدهم، وهم قوم ورثوا أهل بابل وآشور، وكانوا قبل الإسلام يعبدون الكواكب، ومنهم الصابئة، وبعث الله لهم أنبياء كثيرين لم يهتدوا بهم، ومنهم إبراهيم الخليل (بلده أور الكلدانيين)، ونوح الذي دعا عليهم دعوات مجلجلة، ويونس فأرهقوه حتى ألقى بنفسه في اليم فابتلعه الحوت، وكان دأب هؤلاء القوم قديمًا الخضوع للقوة والشدة، كما روى المؤرخون عن ملكهم حمورابي بعد سارجون الأول، فليس عجيبًا أن يبغضوا في صدر الإسلام حاكمًا قوي الشكيمة، مع قرب عهدهم بالوثنية، وجوارهم للفرس والكلدان.
وكان يعاصر الحجاج شيخ صالح خطيب لسن، هو جامع المحاربي، قال للحجاج حين بنى مدينة واسط: «بنيتها في غير بلدك وأورثتها غير ولدك!» ولما شكا له الحجاج سوء طاعة أهل العراق وتنقم مذهبهم وتسخط طريقتهم، قال له جامع المحاربي: «أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.»
أي إن جامعًا المحاربي الخطيب الفطن المعاصر للحجاج لم ير شيئًا من معايب الحجاج الجسمية أو النفسية سببًا في كراهة أهل العراق له، ولكن انتقد طريقة حكمه، وتلك الطريقة لم يخترها الحجاج إلا بعد التفكير والاختبار، ولذا نجد الحجاج بعد موعظة جامع المحاربي يدعو الله فيقول: «اللهم أرني الغي غيًّا فأجتنبه، وأرني الهدى هدًى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالًا بعيدًا، والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه، ولما بقي أشبه من الماء بالماء.» فهل هذا كلام الطغاة الجبابرة وأول ما يخطر ببالهم أن يجحدوا النعمة وينكروا الألوهية، ويزعموا التحكم في الخلائق والتصرف في العباد؟!
وقد ذكر الأستاذ الفاضل فريد أبو حديد بك أن الحجاج لم يعرف الإنسانية، ولم يكن له صديق، فما قوله في ذلك الحوار وتلك المناجاة والدعوة الحارة الصادقة!
لقد اكتوى الحجاج بنار العراق وملأه الغيظ، ولذا تراه في خطبه يصفهم وصف الخبير المجرب، بل وصف عالم النفس العريق في علم الأخلاق، فقد خطبهم بعد معركة دير الجماجم التي خذلوه فيها أمام ابن الأشعث، خطبة من نار، لم ينس أن أهل العراق كانوا سببًا في هزيمة عليٍّ ونزول الحسن عن الخلافة رغم أنفه، ثم في مصرع الحسين بن عليٍّ، قال الحجاج يشرح حاله مع الرعية: «إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة! هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاوٍ، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا تبعتموه وأويتموه ونصرتموه ورحبتموه؟»
وقد ظن الحجاج من شدة ما لقي من أهل العراق أن الشيطان نفسه قد استبطنهم، فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف، ولكنه في نفس الموقف الذي خطب فيه تلك الخطبة النارية، وقبل أن يتنفس، التفت إلى أهل الشام في عطف ودعة وعرفان للجميل، وقال: «يا أهل الشام! إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه، ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنُّها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذئاب، يا أهل الشام أنتم الجُنَّة والرداء، وأنتم العدة والحذاء.»
فهل يعقل أن رجلًا واحدًا يجمع بين هاتين العاطفتين في طرفة عين، إن لم يكن شاعرًا بالحنان والشكر والوفاء والأمانة والعفة لأهل الشام، وبنقيض هذه جميعًا حيال القوم الذين أذاقوه المر، وهو يريد صلاحهم وتعمير ديارهم، ونصرتهم على أعدائهم؟ لو كان الحجاج قاسيًا في خطبة أهل الشام قسوته على أهل العراق، لأمكن القول بأنه طاغية جبار لا يفرق بين قوم وآخرين، شأن الطغاة البغاة المستبدين، ولكنه حاكم حصيف مميز، لا يضع السيف موضع الندى، ولا يضع الندى موضع السيف، ولكنه يكيل لكل فريق بالكيل الذي يستحقه.
***
ودير الجماجم الذي اختصه الحجاج بالذكر كان علمًا على معركة دامية، هُزم فيها جيش الحجاج بسبب تودد أهل العراق في ثورتهم التي رفع رايتها عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وهو من فضلاء الفقهاء والقواد، وقد تبعه قوم كثير، ولكن الغلبة كانت أخيرًا للحجاج لثباته وحنكته، ومع تقديرنا العظيم لابن الأشعث وأسباب حركته الثورية، لا يسعنا إلا ذكر غروره وتعجله، فقد قاتل الحجاج في المربد كما قاتله في الزاوية ودير الجماجم، فأخذه الزهو قبل النصر، فخطب الناس فقال: «أيها الناس! إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة، تضرب بها يمينًا وشمالًا، فما تلبث إلا أن تموت!» فمر به رجل من قشير فقال: «قبح الله هذا ورأيه، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس، ويعدهم الأضاليل، ويمنيهم الباطل!»
وهذا الرجل من بني قشير يشبه كثيرًا من يسمونه في العصر الحاضر «رجل الشارع» الذي ينطق بالحكمة دون معرفة سابقة أو خبرة ظاهرة، وكثيرًا ما يصدق ظنه وتتحقق خواطره، فقد انتصر الحجاج في النهاية على ابن الأشعث، وانجلت المواقع عن فوز الوزغة التي لم يبق إلا ذيلها؛ لأن الحجاج كان بصيرًا بالحرب والسياسة.
ولم تكن خطب الحجاج كلها لاذعة محرقة كما يتوهم بعض المتحاملين عليه، ولم يكن دائمًا مقذعًا، بل كان كثيرًا ما يعظ الناس وعظًا عاليًا، وينثر عليهم درًّا غاليًا، فقد روى مالك بن دينار، وهو من الشيوخ المحدثين، قال: غدوت إلى الجمعة فجلست قريبًا من المنبر فصعد الحجاج المنبر، ثم قال: «امرؤ زوَّر عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته، ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند قلبه زاجرًا، وعند همه ذاكرًا، امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله قبله وتبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفه.»
وتُروى هذه الخطبة بتمامها في «فصل ما روي عن الحجاج من الكلمات النافعة» ص١٢٨ وما بعدها من ج٩ من كتاب البداية والنهاية في التاريخ للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر القرشي المعروف بابن كثير، طبع مصر، ولم يكن مالك بن دينار وحده الذي يُعنَى بصلاة الجمعة مع الحجاج، بل كان للحسن البصري إمام زمانه في الفقه والتصوف والحديث عناية به، واهتمام بأقواله وأفعاله.
***
كتب الأستاذ الفاضل فريد أبو حديد بك أن الحجاج كان في مسلكه مع الخلفاء الذين يستطيعون عزله يظهر نوعًا من الذلة عجيبًا، يحار المؤرخ في تفسيره، وأنه إنما كان ينبعث في حياته عن نفس تضمر الشعور بالذلة (ص٢١٢ ج٨ مجلة الكتاب)، وفي تاريخ خلفاء بني أمية أنهم كانوا يتملقون عملاءهم وقوادهم، وفي مقدمتهم الحجاج، فلما استعمل يزيدُ ابنَ أبي مسلم بعد الحجاج قال: «أنا كمن سقط منه درهم فوجد دينارًا.» وفي هذه الكلمة من تمليق العامل الجديد (ابن أبي مسلم) على حساب العامل القديم (الحجاج) ما فيها، قال يزيد لابن مسلم: «قال أبي (يقصد الوليد بن عبد الملك) للحجاج: إنما أنت جلدة ما بين عيني وأنا أقول: إنك جلدة وجهي كله.» فهذا الخليفة الأموي يتقلب بين التمليق في حضرة عامله، وبين التقليل من قدره في غيبته وبعد وفاته، ولم يكن الحجاج على شيء من النفاق حتى يذل لهذا الخليفة الذي صعد المنبر يومًا فقال: «علي بن أبي طالب لُص ابن لُص صب عليه شؤبوب عذاب!» فقال أعرابي كان تحت المنبر: «ما يقول أميركم هذا؟ وفي قوله لص ابن لص أعجوبتان، إحداهما رميه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بأنه لص، والأخرى أنه بلغ من جهله ما لم يجهله أحد، أنه ضم اللام في لص.»
ولا يمكن اعتبار الحجاج عبدًا ذليلًا لأمثال هؤلاء الخلفاء، كما أراد الأستاذ الأديب فريد بك أن يصوره عندما قال: «إن الحجاج لم يكن ملكًا ولم يكن له الفضل في بناء دولة من الدول،؛ لأنه إنما كان يسطو بسيف وضع له في يده، ويدل بسلطان لم يكن له فضل في بنائه.» وكذلك كان الخلفاء الوارثون بعد وفيات مؤسسي الدول، كمعاوية، وحتى معاوية كان يتقرب إلى القائد النابغ الذي صان كيان دولته وهزم أعداءه وهو زياد ابن أبيه، فكافأه بأن ألحقه بنسبه، أخًا لأب، ورفعه إلى درجة الإمارة وأسماه زياد بن أبي سفيان، وهذه الحال بين الملوك والوزراء والقواد ما تزال شائعة في عصرنا هذا، فإن الملك فكتور عمانوئيل هو الذي وضع السيف في يد بينيتو موسوليني وسلمه زمام الدولة، وأطلق عليه لقب الدتشي، وحياه بتحية الفاشست، ثم تنكر له عند هزيمته، وكذلك الرئيس هندنبرج، رفع هتلر إلى مقام المستشار ومهد له سبيل الحكم.
فإن أردنا أن نتخذ من التاريخ أدلة على سير الأمور وتسلسل الحوادث، فلنذكر دائمًا الحقائق كاملة لاستنباط النتائج الصحيحة، فنرى أن كل ما يبنى على تذلل الحجاج للخلفاء طمعًا في رضائهم ثم انقلابه على الرعية لينتقم منهم بالقسوة وسفك الدماء تعويضًا عن مذلته لسادته، إنما بني على تحكم بعيد عن النصفة، ولا سيما ما قاله الأستاذ فريد بك «فكانت قسوته على المحكومين مقرونة إلى جانب ذلته أمام الخلفاء، وهما معًا يدلان على أنه إنما كان ينبعث في حياته عن نفس تضمر الشعور بالذلة، ويلتمس الوسائل للتعويض عنها كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا.» لأن الحجاج كان في كل أحواله صادقًا مخلصًا لمبدئه وفكرته، وكان الجد في الحياة أظهر صفاته، شأن كل رجل يقطع العمر في نضال عنيف، بعيدًا عن العواطف الرخوة والضعف الذي تقتضيه الرفاهية والدعة والطراوة التي درج عليها كثير ممن كانوا في مكانته أو أقل منها، سواءً في زمنه أو في زمننا هذا، والدليل على جده وعدله واعتداله أن أبا الحسن الماوردي روى في «أدب الدنيا والدين»: «أن الحجاج خطب يوم جمعة فأطال الخطبة فقال رجل (وكان للرعية شجاعة في الحق حتى مع الحجاج): «إن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك.» فحبسه الحجاج، فأتاه أهل الرجل وكلموه فيه، وقالوا: إنه مجنون! فقال الحجاج: إن أقر بالجنون خليت سبيله، فقيل له: أقر بالجنون، فقال الرجل: لا والله! لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني! فأعجب الحجاج بجوابه، وعفا عنه لصراحته وإبائه أن يفتري على الله، ويتهم نفسه بالجنون باطلًا ليخرج نفسه من الحبس.»
ومن أهم أخبار الحجاج عن حفيد عمار بن ياسر قال: «خرج الحجاج يريد العراق واليًا عليها في اثني عشر راكبًا على النجائب حتى دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار، فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
إلى آخر الخبر الذي فيه قوله: «إن أمير المؤمنين عبد الله بن مروان نثر كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرها عودًا وأصلبها عمودًا، فوجهني إليكم»، ثم قدومه ملثمًا وكشفه عن وجهه بعد ذلك، سر ذلك أن العرب اتخذوا اللثام؛ لأنه أهيب في الصدور، وأجل في العيون، والمتقنع أروع من الحاسر، وطرح القناع ملابسة وابتذال ومؤانسة ومقاربة، وقديمًا قالوا من تطؤه العيون تطؤه الأقدام.
فلم يكن الحجاج إذن ظالمًا ولا متعنتًا ولا متصنعًا، وإنما كان يتبع قواعد الحكم الصالح، ويترسم خطى السلف من الصحابة والتابعين.
وكان الحسن البصري يعتبر الحجاج سيفًا من سيوف الله، يجعلها للانتقام من الأمم الظالمة، فقال عنه يومًا: «كان الحجاج يتلو كتاب الله على لخم وجذام، ويعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبارين، اتقوا الله فإن عند الله حجاجين كثيرًا.» وليس في هذا القول مبالغة لمن يعرف بني أمية ودولتهم (انظر خطبة أبي حمزة يحيى بن المختار أحد نساك الإباضية وخطبائهم، ص٦١ ج١ من البيان والتبيين للجاحظ).
أما أسباب نجاح الحجاج وشهرته، فلا ترجع إلى قسوته وشدته أو إهراق الدماء، إنما ترجع إلى رجاحة عقله، وعدم تقيده بالأوهام، واستقلال فكره، وإقدامه وصدق عزمه وبصره بالحرب والسياسة، وفصاحة لسانه وبلاغة كلامه، وهو مدين في هذا لجنسه العربي وثقافته واجتهاده وأدبه، فقد كان كل شيء مما له صلة بالقول والرأي للعرب بديهة وارتجالًا، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابرة ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وكان الحجاج فارس هذا الميدان، وبطل هذه الطريقة، وإمام الفن في عصره، فما هو إلا أن يصرف إرادته إلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من صحبه، وقد امتاز العرب على كل الأمم بهذه الخصوصية، فكان للهند معان مدونة وكتب مجلدة متوارثة على وجه الدهر، وللإغريق فلسفة وصناعة منطق، وقد كان صاحب المنطق نفسه (أرسطو) بكئ اللسان غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وفي الفرس خطباء، إلا أن كل كلامهم وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن دراسة كتب، فكانت حكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث من علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.
فوجب على الناقد والمؤرخ أن يشيد بفضل كل عربي أحيا تلك الموهبة الجليلة، وشق لنفسه طريقًا في الحياة بالحرب والسياسة، ثم بالفصاحة ورجاحة الرأي وقوة الشكيمة وحفظ كيان الدولة، وأن نعد الحجاج وأضرابه — وهم قليل — من مفاخر الحضارة العربية، وحماة اللسان العربي، وبناة الوحدة العربية، وأصحاب الفضل فيما نستمتع به من ثمار الأدب والبلاغة والفنون الرفيعة، مما شغف به علماء المشرقيات، وصرفوا فيه أعمارهم، وبذلوا أموالهم، ولا سيما أن الحجاج كان محسودًا من الأغيار، كالفرس والكلدان، الذين نفسوا عليه فصاحته وحصافته وسطوته وسلطانه وحسن تصريفه الأمور، فحرضوا أهل العراق على قتله، ومن هؤلاء الحساد المحرضين على عصيانه وخيانته ابن بصيهري البابلي، حين شكا إليه الدهاقين الحجاج، قال: أخبروني أين مولده؟ قالوا: الحجاز، قال: ضعيف معجب (لحقده على أهل الحجاز قاطبة) قال: فمنشؤه؟ قالوا: الشام، قال: ذلك شر وأنكى! ثم قال: ما أحسن حالكم إن لم تبتلوا معه بكاتب منكم (يعني من أهل بابل) فابتلوا بزاذان فروخ الأعور! … ثم ضرب لهم مثلًا فقال: إن فأسًا ليس فيها عود ألقي بين الشجر، فقال بعض الشجر لبعض: ما أُلقي هذا ها هنا لخير! قال: فقالت شجرة عارية: إن لم يدخل في است هذا منكن عود فلا تخفنه؛ أي إن الفأس وهي قطعة من الحديد لا تصلح لقطع الشجر إلا بعود من الشجر نفسه، فإن لم يوضع لها العود لتمسك به ما استطاع إنسان أن يقطع بها فرعًا، كذلك الكاتب البابلي يدل الحاكم الأجنبي على عورات أمته، فيعرف أمورها ويتمكن منها، وهذا المثل صالح في الاستعمار الحديث، فإن معظم أعوان المستعمرين في الشرق من أهل الشرق أنفسهم، كما كانت الحال في أول عهد العرب بالحكم في البلاد التي فتحوها.
فتأمل هذه الدعاية الفارسية تارة، والكلدانية طورًا، ضد الحجاج، ثم ثورة الخوارج، وفتنة شبيب الشيباني، وثورة عبد الرحمن بن الأشعث، ورعونة بعض الخلفاء ونفاقهم، وتغلب أهل العراق وعبادتهم أهواءهم، تجده بطلًا من أبطال الحرب والسياسة ودعامة قوية من دعائم الحكم العربي، ورائدًا من رواد العظمة الشرقية، ومؤسسًا في مقدمة بناة الدولة الأموية.
وهذا هو الذي يعني التاريخ ويعنينا، أكثر مما لو كان بغيضًا إلى النساء، أو جميل الصورة، أو مديد القامة صحيح البدن، فإن عبرة التاريخ في حياة الرجال بجلائل الأعمال، لا بمركبات النقص التي ابتدعها أمثال فرويد ليفتُّوا في عضد أهل هذا العصر الحديث، فأبت سعة اطلاع الأستاذ فريد بك وتوقد ذهنه إلا أن يطبقها على من ماتوا من أبطالنا منذ اثني عشر قرنًا.

المراجع

(١) الأغاني.
(٢) البداية والنهاية.
(٣) أدب الدنيا والدين.
(٤) البيان والتبيين.
(٥) نيكلسون تاريخ الأدب العربي.
(٦) ماسنيون «ثورة ابن الأشعث» في الجزء الأول من كتابه عن الحلاج.
(٧) مجلة العالم الإسلامي طبع باريس.