Friday, March 14, 2014

إبراهيم عبد القادر المازني : في عالم الكتب: «أبو تمام الطائي» للأستاذ نجيب محمد البهيتي (١) - جريدة البلاغ ٤ نوفمبر ١٩٤٥




هذا بحث نفيس وضعه الأستاذ نجيب محمد البهيتي و«حبسَتْه عن الناس — تسع سنوات — مؤامرةٌ قبيحة»، ويقول الأستاذ: «ويُحزِنُني أن أقول إن أبحاثي كانت في هذه الفترة الطويلة نهبًا مقسومًا، فنُشر بعضها ممسوخًا مشوَّهًا دون إشارة إلى مصدره.»
أما كيف كانت هذه «المؤامرة القبيحة» ولمَ كانت، فهذا شرحه وبيانه: هذه الأيام «تعتبر دون ريب، استهلال عهد من عهود الثورات في حياة الأمم»؛ أي «الانقلابات التي تصيب حياة الناس بعد الحروب الرهيبة»، و«في مثل هذه الثورات المجتاحة التي تهز النفوس إلى أعمق قراراتها، لا تجد النفوسُ صورتها في أقلام أصحاب المدرسة القديمة ولا في تفكيرهم ولا في نظرتهم إلى الأشياء»، و«هذا الكتاب وإن يكن قديم الموضوع إلا أنه أشبه بهذه الأيام الجبارة الثائرة»، وقد كان من جرَّاء ذلك «غضبة حاقدة مكبوتة من أحد أقطاب المدرسة القديمة، فأخذ يحتال ما استطاع ليحول بين هذا الكتاب وبين الوصول إلى أيدي الناس، فطلب مني أصوله بحجة طبعها فسلمتها له فظل يحبسها عنده ثماني سنوات».
وأنا أستأذن الأستاذ البهيتي في القول إني مع عطفي عليه في هذه المحنة الطويلة التي قاساها، لا أصدق أن رجلاً فاضلاً من أهل العلم والأدب (لا بد أن يكون من أهل العلم والأدب ما دام أنه قطب، ولو قديم، وأنه ممن يعطون أصول الكتب ليتوسطوا في طبعها) أقول لا أصدق أن مثله يبلغ من خسة النفس ولؤم الطباع أن يحبس الكتاب هذا الزمن، بل قل يبلغ من قلة العقل أن يفعل ذلك، والأرجح عندي أنه كما يقول ابن الرومي:
ولست أستخف بأن يحبس كتاب مثل هذا الزمن المديد، فلو صحَّت التهمة لكانت مخزاة لا يذهب عارها، والأقرب في الاحتمال عندي أن هذا كان عفوًا، ولكن القلوب تتغير فتسوء الظنون، ويبدو كل شيء في رأي العين كالحًا، وفي إحساس القلب سقيمًا، ولست أستبعد أن يكون ما حدث راجعًا إلى السهو أو الإهمال أو الكسل، وليذكر المؤلف الفاضل أن الأقطاب مرهقون بالتكاليف، ولست «قطبًا» ولله الحمد، ولكني أُستشَار في أمور كثيرة يسرني أن أُوفَّق فيها إلى رأي نافع، وتُعرَض عليَّ الكتب لأراجعها أو أقرأها، فأضعها حيث أرجو أن لا تغيب عن عيني، فتتكدس عليها الأوراق والكتب فأذهب عنها، وأنساها شهرًا وشهرين بل عامًا، وقد أتذكرها، ولكن الشواغل كثيرة، والواجبات متعددة وثقيلة، واليوم ليس فيه سوى أربع وعشرين ساعة، وليس أَخْوَن من ذاكرتي، وأنا مع هذا لسوء حظي لا أُعوِّل إلا عليها، فلا أُدوِّن شيئًا، ولا أتخذ دفترًا أُثبِت فيه ما يجب أن أُعنَى به أو ما أحب أن أكون منه على ذكر؛ لأنه لا فائدة من الدفتر ما دمت أنساه جملة، وتردني الرسائل فأدسُّها في جيبي لأرد عليها، فتظل فيه بغير جواب، لا تَرفُّعًا أو تكبُّرًا أو غير ذلك، بل لأني أنساها، أو لا أتذكرها إلا وأنا متعب مكدود، فأؤجل الأمر إلى غدٍ، ثم إلى غدٍ آخر، وهكذا حتى يفشو عليَّ الأمر فأُخرِج الكوم الذي صار جيبي منتفخًا به وأضعه تحت الوسادة حتى تصبح فيما أحس كالحجر الصلد تحت رأسي، فأصيح بأهل البيت: «يا ناس انقلوا هذا إلى مكان آخر! أليس في رءوسكم عقول؟!» كأنما كانوا هم واضعيها! فلو ذهب الناس يحاسبونني كما يحاسب الأستاذ البهيتي ذلك «القطب» لكان من حقِّهم أن يرموني بكل ما يخطر على البال والعياذ بالله.
وأنا أعذر الأستاذ، ولكني لا أحمد هذه النفثة الحامية، ولعل له من شبابه عذرًا كعذره مما لقي من المماطلة أو الإهمال، ولا أستملح قوله في وصف أدب من يسميهم «أصحاب المدرسة القديمة» بأنه «ثرثرة واهنة قبيحة»، فليس هناك أصحاب مدرسة قديمة وآخرون أصحاب مدرسة جديدة، وإنما هناك كهول وشبان يجتهدون، ولا مدرسة تجمع هؤلاء أو هؤلاء، وكل واحد منهم يصح أن يُعدَّ مدرسة قائمة بذاتها، أو يمثل لونًا معينًا من ألوان الأدب الحديث مستقلًّا بنفسه، ولا شك أن هناك تماثلًا وتشابهًا، وأن فريقًا من أدبائنا يعدون من «معدن» واحد إذا صح هذا التعبير، ولكن الاختلاف بينهم في الاتجاه والمذهب واضح، على أني لا أظن أن المؤلف يعني الأدباء أو فريقًا منهم حين يقول «أصحاب المدرسة القديمة»، وأكبر ظني أنه يعني جماعة من الأساتذة، فإن سياق الكلام يوحي بذلك، وهؤلاء — مهما يكن رأي المؤلف فيهم — هم الذين أخذوا بيده ويد غيره وساروا بهم على الدرب، وإذا كان المؤلف يرى أن التلاميذ قد بَذُّوا الأساتذة وسبقوهم وصاروا أقوم تفكيرًا في رأيه وأهدى سبيلاً، فإن هذا لا يغضُّ من قدر الأساتذة ولا يسلبهم فضلهم في التعليم والتثقيف والتوجيه على الأقل.
وقد تمنيت بعد أن فرغت من قراءة الكتاب لو أن مؤلفه استغنى عن الصفحتين الأولَيَين من المقدمة فإنهما غير لائقتين ببحثه الدقيق الوافي المتزن، وما الداعي مثلاً لأن يصف كتابه بأنه «أشبه بهذه الأيام الجبارة الثائرة»؟، ما محل كلام كهذا في بحث في أبي تمام وحياته وشعره؟ قد تكون طريقته جديدة، ووسيلته العلمية قوية، وترتيب البحث بديعًا، وتبويبه طريفًا، ولكن هذا كله لا يستوجب وصف الكتاب بأنه «جبار ثائر»، فهو أشبه بحماسة الشبان منه باتِّزان العلماء.
وَلْيَعذرني المؤلف الفاضل إذا رآني ألومه وأعيب هذه اللغة الجافية في مقدمة كتابه؛ فإن الكتاب أجلُّ من أن تكون هاتان الصفحتان في مقدمته، فليته نزَّهَه عنهما.
وفي الأسبوع المقبل نتناول الكتاب بالعرض إن شاء الله.

No comments:

Post a Comment