Thursday, March 20, 2014

هل يتفوق ذكاؤك حقًّا على ذكاء إنسان نياندرتال؟


منذ استخراج أقدم الحفريات لأول شبيه للبشر — قوي البنية، مفتول العضلات، منخفض الجبهة، والذي يشبه صدره صدر الشمبانزي — في ألمانيا عام ١٨٥٦، سلب إنسانُ نياندرتال عقولَ البشر، وأثار ازدراءهم في الوقت نفسه؛ فقد أعلن إخصائي علم الأمراض الألماني رودولف فيرشو أن العظام التي وُجدت إنما هي عظام قوزاقي جريح، وتعكس عظامُ القوس الحجابية في صدفة جبهته سنواتٍ من العبوس نتيجة الألم. وأشار عالِم الحفريات القديمة الفرنسي مارسيلين بول إلى أن الحفريات قديمة، لكنه تجاهل العلامات التي دلَّت على أن العينة التي فحصها كانت تعاني من التهاب المفاصل. وكان هو أيضًا مَن كوَّن انطباعًا لا يزال عالقًا في أذهان معظم الناس حتى الآن عن أن إنسان نياندرتال حيوان مثني الركبة ثقيل الحركة. ورأى الجيولوجي الأيرلندي ويليام كينج أن الكائن يشبه القرد كثيرًا، حتى إنه فكَّر في تصنيفه جيولوجيًّا في جنس جديد، غير أنه في النهاية صنفه في درجة ثانية من نوع منفصل هو هومو نياندرتال.
فرد من أفراد العائلة.
فرد من أفراد العائلة.
التزاوج مع إنسان نياندرتال: مقارنة بين جينوم إنسان نياندرتال وجينوم الإنسان الحديث تشير إلى أن كليهما التقيا وتزاوجا منذ قرابة ٤٥ ألف سنة.
التزاوج مع إنسان نياندرتال: مقارنة بين جينوم إنسان نياندرتال وجينوم الإنسان الحديث تشير إلى أن كليهما التقيا وتزاوجا منذ قرابة ٤٥ ألف سنة.
ثلاثمائة ألف سنة من التقدم: طوَّر إنسانُ نياندرتال العديدَ من التقنيات والممارسات الثقافية لمنافسة تقنيات وثقافة الإنسان العاقل الذي عاصره.
ثلاثمائة ألف سنة من التقدم: طوَّر إنسانُ نياندرتال العديدَ من التقنيات والممارسات الثقافية لمنافسة تقنيات وثقافة الإنسان العاقل الذي عاصره.
ومنذ ذلك الحين، يتم الكشف عن مئات المواقع التي تضم حفريات إنسان نياندرتال. وتُظهر تلك المواقع أن إنسان نياندرتال عاش في كثير من مناطق أوراسيا الحديثة؛ من الجزر البريطانية إلى سيبيريا، ومن البحر الأحمر إلى بحر الشمال. كما ظل على قيد الحياة في هذه الأماكن مائتي ألف سنة أو أكثر — وهي فترة تتسم بالفوضى المناخية — قبل أن يختفي في نهاية المطاف منذ حوالي ٣٠ ألف سنة. وحاليًّا، تتغير النظرة القديمة لإنسان نياندرتال، بوصفه أدنى مرتبة من الإنسان العاقل، كلما نُسبت إليه تدريجيًّا قدراتٌ ظُنَّ اقتصارها على الإنسان العاقل فحسب. الأدهى من ذلك أن النوعين كليهما يلتقيان بوضوح، فيدل جينوم إنسان نياندرتال المنشور في وقت سابق من هذا العام على أن الجنسين مهجَّنان معًا. فنحن نشاطر أكثر من ٩٩ بالمائة من جيناتنا مع إنسان نياندرتال، وتشريحيًّا بعد الانحدار من سلف مشترك منذ حوالي ٥٠٠ ألف سنة، التقى الإنسان الحديث إنسان نياندرتال وتزاوج معه، وذلك على الأرجح في الشرق الأوسط منذ حوالي ٤٥ ألف سنة.
إذا كان أسلافنا قد التقوا وتآلفوا ولم يحارب أحدهم الآخر، فلا يمكن أن يقال الأمر نفسه عن الباحثين الذين يدرسونهم؛ فقد تهافت على الاكتشافات الجديدة الباحثون الذين لديهم اعتقاد بأن إنسان نياندرتال كان يفكر كما نفكر، ويتحدث كما نتحدث، ويثري عالمه بالموسيقى والديكور والرموز كما نفعل؛ حتى إنهم اقترحوا أننا من الجنس نفسه. ومع ذلك، لا يزال هناك من يجادل باحتدام بأن عقول إنسان نياندرتال لم تكن تضاهي عقول أسلافنا من البشر العاقلين. ومن المستغرب أنهم يشيرون أيضًا إلى أحدث الأدلة الجينية لتعزيز هذا الرأي. لذلك، هل كان إنسان نياندرتال مثلنا، أم أنه مجرد نوع فاشل من أشباه البشر؟
يأتي أول الأدلة الداعمة للمعسكر الأول؛ أي أنصار المذهب التعديلي، من أنماط حياة إنسان نياندرتال، والتي تشير إلى وجود أوجه شبه مع الإنسان الحديث في بداياته. فعلى سبيل المثال، نعرف أنه بالإضافة للسكن في الكهوف والأماكن المغطاة، شيَّد إنسان نياندرتال الملاجئ. وقد عُثر على ثقوب كانت تحتلها أوتاد وأعمدة خشبية ربما كانت تُقام عليها الملاجئ ذات السطح المائل في موقعين في فرنسا (دورية أمريكان أنثروبولوجيست، المجلد ١٠٤، صفحة ٥٠). وتشير العديد من المواقد — التي يرجع تاريخها إلى قبل ٦٠ ألف سنة — إلى أن إنسان نياندرتال أشعل النيران أيضًا؛ رغم أنه لم يكن أول مَن فعل ذلك، ولكنه ربما كان أول مَن عزف الموسيقى حول نيرانه. كما نُسب له أقدم آلة موسيقية معروفة عن طريق مكتشفها آيفان تورك (مجلة نيتشر، المجلد ٤٦٠، صفحة ٧٣٧)، رغم تشكيك البعض في أن المزمار العظمي الذي يبلغ عمره ٤٣ ألف سنة والذي وُجد في دِويا بابِه في سلوفينيا ما هو إلا مجرد عظمة فخذ لأحد دببة الكهوف، ثقبتها حيوانات برية (دورية أنتيكويتي، المجلد ٧٢، صفحة ٦٥).
توجد أيضًا أدلة على أن إنسان نياندرتال ارتدى الملابس. وتعتقد شارا بيلي — من جامعة نيويورك — أنه كان ينظِّف وينعِّم جلود الحيوانات بأسنانه مثلما يفعل شعب الإسكيمو التقليدي اليوم. وتضيف قائلة: «إذا حصلتَ على جمجمة إنسان نياندرتال بالغ، غالبًا ما ستكون قواطعه بالية وصولًا إلى لبِّها الداخلي، في حين أن أضراسه سليمة. لذلك كان يستخدم على الأرجح أسنانه الأمامية في معالجة الجلود.»
ورغم أنه كان يُنظر إلى إنسان نياندرتال في البداية على أنه كان يقتات على ما يجده من فضلات، اتضح الآن أنه كان يصطاد الفرائس الكبيرة، منها وحيد القرن وأفيال الماموث البالغة. كما أنه كان يُكيف استراتيجيات الصيد التي يتبعها مع البيئة؛ إذ كان ينصب الأكمنة للفرائس التي لا تمشي في جماعات في الغابات، ويطارد ثيران البيسون وقطعان الحيوانات الأخرى في السهوب، ويصطاد الطيور والأرانب، ويصيد الأسماك من على الشاطئ (دورية بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز، المجلد ١٠٥، صفحة ١٤٣١٩).
تطلَّب تصنيع الأدوات التي استخدمها إنسان نياندرتال — والتي عبَّرت عن الثقافة السائدة في العهد الموستيري، ويعود تاريخها إلى ما بين ٣٠٠ ألف سنة و٣٠ ألف سنة ماضية — تخطيطًا وتركيزًا ومهارة كبيرة. فقد لَزِم إجراء إعدادات دقيقة للُبِّ الحجر لكي تسفر ضربة المطرقة الحجرية في النهاية عن الأداة الحادة المحدَّد تصنيعها سلفًا. ويقول توماس وين من جامعة كولورادو في كولورادو سبرينجز: «صنع إنسان نياندرتال تقنيات يجد الإنسان الحديث صعوبة في تكرار صنعها.» حتى إنه صنع أدوات معقدة من أكثر من مادة واحدة واستخدمها، بما في ذلك أول حربة بمقبض منذ حوالي ١٢٧ ألف سنة (دورية جورنال أوف أركيولوجيكال ساينس، المجلد ٣٦، صفحة ٨٥٠). وتوجد أيضًا أدلة يرجع تاريخها إلى أكثر من ٨٠ ألف سنة تشير إلى أنه صنع غراء لصق به أجزاء حجرية مدببة في مقابض الرماح عن طريق تسخين راتينج البتولا في ظروف لاهوائية (دورية جورنال أوف يوروبيان أركيولوجي، المجلد ٤، صفحة ٣٨٥).
قديمًا، ساد اعتقاد بأن التقدم التقني الذي حققه إنسان نياندرتال قرب نهاية عصره نقله عنهم الإنسان الحديث الأول، ولكن يدحض هذا الاعتقاد بحثٌ حول مواقع اكتشاف حفريات إنسان نياندرتال البالغ عمرها ٤٢ ألف سنة في جنوب إيطاليا. فعلى الأقل، يوجد أدلة هناك على أن إنسان نياندرتال صنع مجموعة من الأدوات الحجرية والعظمية تختلف عن الأدوات التي استخدمها البشر الأوائل الذين عاشوا في شمال البلاد (دورية جورنال أوف أركيولوجيكال ميثود آند ثيري، المجلد ١٧، صفحة ١٧٥). وعلى الرغم من النظرة النمطية لإنسان نياندرتال بأنه عاجز عن التغيير، يتقبل العديد من الباحثين الآن أنه كان قادرًا على الابتكار.
وكذلك يُجمع الباحثون على أن إنسان نياندرتال كان يدفن موتاه (كتاب «البشر المنقرضون»، بيزك بوكس، ٢٠٠٠). وبالإجماع أيضًا، يقع أقدم قبر للإنسان العاقل في مغارة السخول في جبل الكرمل بإسرائيل، ويرجع تاريخه إلى قبل حوالي ١٢٠ ألف سنة. وعُثر على مدافن إنسان نياندرتال في العديد من المواقع، منها لاشابل-أُو-سان في فرنسا، حيث تم دفن «الإنسان الغابر» في التربة الملونة منذ حوالي ٦٠ ألف سنة، وتيشك تاش في أوزبكستان، حيث دُفن صبي عمره ٩ سنوات محاطًا بقرون الوعل الجبلي قبل حوالي ٧٠ ألف سنة (دورية أمريكان جورنال أوف فيزيكال أنثروبولوجي، المجلد ٣، صفحة ١٥١). وعُثر على قبور ١٠ أشخاص في كهف شاندر في العراق يرجع تاريخها إلى نحو الوقت نفسه. ويشير إيان تاترسال — الذي يعمل في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك، ومؤلف كتاب «البشر المنقرضون» — إلى أن إحدى هذه المقابر تكشف عن رعاية إنسان نياندرتال لفرد مصاب لمدة سنوات قبل وفاته، مما يقدم «دليلًا افتراضيًّا قويًّا على وجود التعاطف والاهتمام داخل المجموعة الاجتماعية، وربما على الأدوار الاجتماعية المعقدة.»
ويحتوي كهف شاندر أيضًا على «مقبرة الزهرة» الشهيرة. ويُستشهد أحيانًا بزيادة تركيز حبوب اللقاح الصادرة من النباتات الطبية في هذه المقبرة كدليل على الشامانية والمراسم الجنائزية التي مارسها إنسان نياندرتال. وعلى الرغم من الجدل الثائر حول هذا التفسير، فقد لاقت قدرة إنسان نياندرتال على التفكير الرمزي الدعم مؤخرًا. وعثر شواو زِلياو — من جامعة بريستول بالمملكة المتحدة — وفرانسيسكو ديريكو — من معهد جيولوجيا عصور ما قبل التاريخ والعصر الرباعي في تالونس بفرنسا — على أصداف بحرية مثقوبة وأصباغ حمراء وصفراء وأصداف ملونة بخليط من عدة أصباغ في اثنين من الكهوف في إسبانيا، يبعد أحدها ٦٠ كيلومترًا عن البحر. ويزعم كلاهما أن هذا يبين أن إنسان نياندرتال كان يزين نفسه بمشغولات رمزية تمثل ابتكارات إنسان نياندرتال المستقلة؛ إذ يعود تاريخها إلى قبل ٥٠ ألف سنة؛ أي قبل وجود الإنسان الحديث في المنطقة (دورية بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز، المجلد ١٠٧، صفحة ١٠٢٣).
غير أنه من المسلَّم به أنه لا يوجد دليل على أن إنسان نياندرتال رسم على جدران الكهوف، ولكن يشير زِلياو إلى أن رسومات البشر الأولى على جدران الكهوف بدأت منذ حوالي ٢٠ ألف سنة فحسب، بعد فترة طويلة من انقراض إنسان نياندرتال. ويقول إنه بدلًا من الرسم على الجدران ربما ابتكر إنسان نياندرتال أعمالًا فنية زال ما تبقى منها على نحو أسرع، مستخدمًا الأصباغ لتزيين جسده وإرسال معلومات رمزية حول عضويته في المجموعة الاجتماعية.
كثيرًا ما يرتبط التفكير الرمزي بسمة إنسانية مميزة أخرى، هي اللغة. إذن، فهل يوجد أي دليل على أن إنسان نياندرتال استطاع التكلم؟ يظن ذلك رالف هولواي، من جامعة كولومبيا في نيويورك. فقد درس مئات قوالب المِخاخ التي وُضعت في جماجم حفريات إنسان نياندرتال، واكتشف أن حجم المخ لا يقل عن حجم مخ الإنسان الحديث إلا بنسبة مئوية ضئيلة، وذلك رغم كبر جسده. وعلى الرغم من حاجبَيْه المائلَيْن، كان لديه فصٌّ جبهي ومناطق مسئولة عن ملكة التكلم مثلنا.
وفضلًا عن هذه القرائن التلميحية المادية، تكشف الاختبارات الجينية عن امتلاك إنسان نياندرتال نسخة من جين يسمىFOXP2، وهو الجين المقترن باللغة لدى البشر (دورية كَرنت بيولوجي، المجلد ١٧، صفحة ١٩٠٨). وفي الوقت نفسه، توضِّح حفريات من كهف كيبارا في إسرائيل أن العظم اللامي — عظمة على شكل حرف U الإنجليزي في الرقبة تثبت عضلات التكلم الرئيسية — لدى إنسان نياندرتال يتطابق مع عظمنا. وعن ذلك يقول هولواي: «أنا على يقين أنهم كانوا يتواصلون باستخدام اللغة.»
ويرى فيليب ليبرمان — لغوي من جامعة براون في بروفيدانس، رود آيلاند — أن إنسان نياندرتال كان يتكلم. ومع ذلك، يشير إلى أنه قبل حوالي ٥٠ ألف سنة لم يكن في مقدور إنسان نياندرتال ولا الإنسان الحديث إنتاج مجموعة الأصوات الكاملة التي ننتجها اليوم (مجلة إكسبيديشن، المجلد ٤٩، صفحة ١٥). وبعد أن درس جماجم عمرها بين ١٫٦ مليون سنة من الإنسان منتصب القامة وصولًا إلى جماجم عمرها ١٠ آلاف سنة من الإنسان العاقل، توصَّل ليبرمان إلى أنه لم يكن أيٌّ من النوعين قادرًا على إنتاج أصوات حروف العلة الموجودة في المقاطع «سي» و«دو» و«ما»، ويدعم هذا الأمر المحاكاة الحاسوبية التي أجراها روبرت مكارثي في جامعة فلوريدا أتلانتيك في بوكا راتون.
وفي ظل هذه الأدلة المتراكمة، يلخص إريك ترينكاوس — من جامعة واشنطن في سانت لويس بميزوري — لأنصار التعديلية المسألة كلها بقوله: «إذا ألقيت نظرة على السجل الأثري لإنسان نياندرتال في أوروبا والإنسان الحديث في أفريقيا أو الشرق الأدنى في الفترة الزمنية نفسها، ستجد أنهما متشابهان بشكل ملحوظ مع وجود استثناءات نادرة. فقد كان إنسان نياندرتال إنسانًا مثلنا، وربما كانت لديه مجموعة القدرات العقلية نفسها التي لدينا.»
هل انتهى الجدل عند هذا الحد؟ قد تعتقد ذلك، ولكن لا يزال يوجد بعض الباحثين الذين يختلفون مع هذا البحث الشامل الجديد. فيقول بول ميلرز الباحث في جامعة كامبريدج: «انفصل إنسان نياندرتال والإنسان الحديث منذ ٥٠٠ ألف سنة، وتطورا على نحو مستقل في أوروبا وأفريقيا. تراكميًّا، يمثل هذا مليون سنة من التطور. وسيكون صادمًا أن لا تحدث تغييرات في مِخاخهم وفي أجسادهم من الناحية التشريحية.» ويرى أيضًا أن الاختلافات المعرفية بين هذين النوعين لها أساس بيولوجي، كما أنها جوهرية.
دعم هذه الحجة استكشافُ جزء من جينوم سلالة إنسان نياندرتال، الذي أُعلنت نتائجه في شهر مايو من هذا العام. فرغم أن الفرق بين جينوم البشر اليوم وجينوم إنسان نياندرتال أقل من ١ بالمائة، فإنه يعادل الطفرات التي تتعرض لها مئات الجينات. وكم كان إبراز هذه الاختلافات صعبًا، ويرجع ذلك إلى أن إعادة بناء الجينوم لم تكتمل بعد. وحتى مع ذلك، يرى يوهانز كراوزه — الباحث بجامعة توبنجن في ألمانيا — أنه من بين تلك الاختلافات التي تم تحديدها حتى الآن، يوجد العديد منها في جينات مسئولة عن وظائف المخ والإدراك، بما في ذلك المهارات الاجتماعية ومهارات العلاقات. فيقول: «قد يكون هذا هو الجانب الاجتماعي الذي يختلف فيه إنسان نياندرتال عن البشر حقًّا.»
يأتي المزيد من الدعم من دراسة أجراها فيليب جَنز وزملاؤه في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيج بألمانيا. وأشارت مقارنة لهم، بين إعادة بناء جمجمة إنسان نياندرتال حديث الولادة — افتراضيًّا — وجمجمة رضيع إنسان حديث، إلى أن المِخاخ كانت متشابهة عند الولادة، ولكن تطورت على نحو مختلف خلال السنة الأولى من العمر، وهي فترة حاسمة بالنسبة للتطور المعرفي (دورية كَرنت بيولوجي، المجلد ٢١، ص ر-٩٢١).
ووفقًا لآراء بعض الباحثين الموقرين، قد يكون لإنسان نياندرتال أوجه قصور معرفية أخرى. يقول لويس بينفورد — من الجامعة الميثودية الجنوبية في يونيفرسيتي بارك بولاية تكساس — إن أنماط حياته تُظهر قليلًا من التخطيط المسبق. ويعتقد وين أن لديه سعة ذاكرة عاملة أقل من الإنسان الحديث، مما يحدُّ من كمية المعلومات التي يمكنه معالجتها في وقت معين. ويضيف قائلًا: «سعة الذاكرة هي أحد الأشياء المسئولة عن افتقاره الصارخ للابتكار.» ويسلم ستيفن ميثن — من جامعة ريدنج بالمملكة المتحدة — بامتلاك إنسان نياندرتال القدرات الحديثة في معرفة العالم الطبيعي، واستخدام المواد، والتفاعل الاجتماعي. ومع ذلك، يعتقد أنه كان يفتقر إلى «المرونة المعرفية» و«القدرة على استخدام الاستعارات المجازية» المطلوبة لربط هذه المجالات، مما يجعله غير قادر على إنتاج أشياء رمزية معقدة (كتاب «إنسان نياندرتال الغنَّاء»، مطبعة جامعة هارفرد، ٢٠٠٦). وميلرز غير مقتنع أيضًا أن إنسان نياندرتال كان قادرًا على التفكير الرمزي الذي يستنتجه زِلياو من المشغولات الصدفية التي عثر عليها في إسبانيا. ويضيف قائلًا: «أعتقد أن وجهة نظر زِلياو مغلوطة تمامًا؛ فإذا كانت هذه هي أفضل الأشياء التي فعلها إنسان نياندرتال عبر ٢٥٠ ألف سنة في أوروبا بأكملها، إذن فهو يستحق الشفقة!»
مع ذلك، ففي أغلب هذه الفترة، لم يكن الإنسان الحديث الأول مبتكرًا أيضًا. حتى ميلرز يقبل أن هناك بعض الاختلافات بين إنجازات الإنسان الحديث وإنجازات إنسان نياندرتال حتى حوالي ٥٠ ألف سنة ماضية. على الرغم من ذلك، كان الإنسان الحديث يمضي في سبيله عند هذه المرحلة للأمام، وشهد نشاطه الرمزي «نجاحًا عظيمًا» متجسدًا في التماثيل المنحوتة، والمراسم الجنائزية المتقنة، ووفرة من أدوات الزينة الشخصية، وأخيرًا رسومات متقنة على جدران الكهوف. ويزعم ميلرز أنه بحلول الوقت الذي دخل فيه الإنسان الحديث أوروبا، كان يمتلك تقنيات أفضل وتنظيمًا اجتماعيًّا أفضل وعقولًا أفضل، مضيفًا: «كان إنسان نياندرتال يلعب أمام فريق أفضل منه.»
يتفق عالم الأنثروبولوجيا ريتشارد كلاين — من جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا — مع ذلك؛ فيعتقد — على غرار ميلرز — أن تغيرات جينية كبيرة تكمن وراء الازدهار المعرفي والرمزي الذي شهده الإنسان الحديث، قائلًا: «يعتقد بعض الناس أنه من العنصرية قول إن إنسان نياندرتال أو البشر الأوائل يختلفون عنَّا وراثيًّا. وقد اتُّهمتُ بانتقاد إنسان نياندرتال، كما لو كنتُ أحاول إبعاده عن الالتحاق بجامعة هارفرد.» مع ذلك، يصر كلاين على موقفه، ويضيف: «تلك الجينات الحديثة على نحو فريد يمكن أن تساعد في تفسير سبب انقراض إنسان نياندرتال.»
بالنسبة للتقليديين، هذا هو جوهر النقاش: انقرض إنسان نياندرتال، في حين أننا لا نزال موجودين بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولكن يبدو أن أنصار التعديلية هم من يضحكون أخيرًا. ربما لم يعد إنسان نياندرتال يعيش بيننا بجسده، ولكن جيناته تعيش فينا؛ إذ تمثل ما يقدر ﺑ ٤ بالمائة من جينوم أي شخص من أصول غير أفريقية. وهذا يعادل الجد الثالث (انظر الجزء المعنون ﺑ «ما يقوله الحمض النووي» أدناه).
يتضح هذا أكثر بوضع حجم شعب إنسان نياندرتال في الاعتبار؛ إذ يدل التباين المحدود في الحمض النووي المُتَقَدِّرِيِّ لهم على الوجود المستدام — فيما بينهم — لعدد من الأشخاص القادرين على الإنجاب يصل إلى ٣٥٠٠ فرد فقط. وكما يشير زِلياو، كانت الذخيرة الوراثية لدى الإنسان الحديث في أفريقيا أكبر من ذخيرة إنسان نياندرتال بأضعاف كثيرة. ويضيف قائلًا: «ماذا يحدث عند خلط لتر واحد من الطلاء الأبيض مع ١٠٠ لتر من الطلاء الأسود؟ تحصل على ١٠١ لتر من الطلاء الأسود. وهذا ما وجده علماء الوراثة.»

ما يقوله الحمض النووي

في مايو ٢٠١٠، أعلن فريق بقيادة ريتشارد جرين — من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز — وسفانته بابو — من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيج بألمانيا — عن إنجاز مدهش؛ فمن شظايا العظام المتحجرة لثلاثة أفراد من سلالة إنسان نياندرتال، عاشوا قبل ٤٠ ألف سنة فيما يعرف الآن بكرواتيا، أعاد الفريق تجميع ٦٠ بالمائة من جينوم إنسان نياندرتال، وقدموا أول مقارنة جينية مفصلة بين إنسان نياندرتال والإنسان الحديث (مجلة ساينس، المجلد ٣٢٨، صفحة ٧١٠).
ومن خلال الاستنتاجات المستقاة من تسلسلات الجينوم المتاحة، يرى الفريق أن إنسان نياندرتال والإنسان الحديث مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، كارتباط أي اثنين من البشر على قيد الحياة الآن: فربما تشاطر أنت نفسك ٩٩٫٩ بالمائة من حمضك النووي مع إنسان آخر مُنتقى عشوائيًّا، وتشاطر ٩٩٫٨ بالمائة منه مع إنسان نياندرتال. وهذا يعكس وجود أسلاف مشتركين بيننا وبينهم، انفصلنا عنهم منذ حوالي ٥٠٠ ألف سنة.

نوعان أم نوع واحد؟

ومع ذلك، المفاجأة الأكبر هي أن الأشخاص من أصول غير أفريقية أكثر شبهًا بإنسان نياندرتال من الأفارقة، مما أوصل الباحثين إلى استنتاج أن ما بين ١ و٤ بالمائة من الحمض النووي لكل الأشخاص من أصول غير أفريقية تأتي مباشرة من إنسان نياندرتال. والطريقة الوحيدة التي حصل من خلالها غير الأفارقة في جميع أنحاء العالم على هذه الجرعة من الحمض النووي لإنسان نياندرتال هي أن الإنسان الحديث الذي ترك أفريقيا تزاوج مع إنسان نياندرتال قبل الانتشار في بقية العالم، وهو الأمر الذي يعتقد الباحثون أنه حدث في الشرق الأوسط منذ حوالي ٤٥ ألف سنة. لم يكن هذا متوقعًا؛ إذ لم تُظهر الدراسات السابقة للحمض النووي المُتَقَدِّرِيِّ لإنسان نياندرتال وكروموسوم Y أية علامات على التزاوج مع الإنسان الحديث.
وبالمثل، فإنَّ الحمض النووي الذي يميزنا عن إنسان نياندرتال مثير للاهتمام؛ إذ تتشارك كل سلالة الإنسان الحديث نفسَ تسلسلات الحمض النووي المكون من ٧٨ جينًا و٢٠٠ امتداد جينوم أطول، ولا ينطبق ذلك على سلالة إنسان نياندرتال. وتمثل هذه الجينات وامتدادات الجينوم الطفرات التي حدثت في السلالة البشرية بعد أن انفصلت عن سلفنا المشترك. وتشمل التسلسلات جينات تؤثر على الوظائف الحسية والإدراك والتفاعل الاجتماعي والتمثيل الغذائي والمناعة. ويشير جرين: «لا نفهم حتى الآن كيف تختلف وظائف المخ والإدراك بالضبط، ولكننا نعرف الآن الوجهة التي سنقصدها لتحديد كيفية الاختلاف.»
لم يتوقع أي شخص قط وجود جين واحد يميز إنسان نياندرتال عنا، ومع ذلك دُهش الباحثون بسبب عامل النسخ الجيني RUNX2. فطفرة واحدة في RUNX2 تسبب مجموعة من التغييرات الهيكلية، بما في ذلك عظام القوس الحجابية في صدفة الجبهة والصدر جرسي الشكل اللذين يميزان إنسان نياندرتال. ويقول بابو: «إنه لأمر مثير للغاية؛ فربما يكون جين واحد هو ما يعكس حقًّا ما تراه في السجل الأثري.»
كان البعض يأمل أن تحل مقارنة الجينوم الجدلَ الدائر منذ ١٥٠ سنة حول ما إذا كان إنسان نياندرتال والبشر ينتميان إلى نفس النوع. فرغم كل شيء، فإنه من تعريفات الأنواع المتمايزة أنها لا يمكن أن تتزاوج وتنتج ذرية خصبة. ولكن لم ينخرط بابو في هذا الجدال؛ وقال: «أعتقد أنه عندما يتعلق الأمر بجماعات وثيقة الصلة مثل إنسان نياندرتال والبشر، فإن مثل هذه التعريفات تزيد الارتباك ولا توضح شيئًا، إنما تعمل فقط على إثارة اهتمام الناس دون سبب يدعو لذلك.»

أسباب الانقراض

يبدو أن كل شخص لديه فكرة مختلفة عن سبب انقراض إنسان نياندرتال: فأولئك الذين يرونه من الفصائل الأدنى يظنون أن المُلام في هذا الأمر هو الإنسان الحديث الأول الأكثر ذكاء، والأكثر قدرة على الكلام والتكيف، والأكثر اجتماعية؛ إذ تفوق على إنسان نياندرتال من حيث استخدام الموارد والتنظيم والنجاح في التناسل، إن لم يكن السبب هو المواجهة المباشرة بينهما. وفي الوقت نفسه، فأولئك الذين يعتقدون أن إنسان نياندرتال كان ذكيًّا مثل البشر الأوائل يُرجعون عادةً السبب إلى تغير المناخ والكوارث الطبيعية والاختلافات الثقافية التراكمية. على سبيل المثال، في كتاب «المنقرضون من البشر» (مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠٠٩)، يشير كلايف فينليسون إلى أن بنية إنسان نياندرتال القوية المكتنزة وأسلوب الصيد الذي كان يتبعه في المناطق المجاورة فقط جعلا وجوده مقتصرًا على بيئة محدودة، وجعلاه — على نحو متزايد — عرضة إلى تدهور المناخ وزواج الأقارب والأمراض والمنافسة. ويعتقد كريس سترينجر — الباحث في متحف التاريخ الطبيعي في لندن — أن المجموعة الأخيرة من إنسان نياندرتال لم يحالفها الحظ فحسب: «إذ كانت هذه الفترة واحدة من أكثر فترات عدم استقرار المناخ على الأرض. فكان عليهم التكيف مع هذه التغيرات، ولكن كان بصحبتهم أنواع متنافسة معهم، فأضحى الأمر أشبه بالضربة المزدوجة التي نالت منهم فانقرضوا.»

No comments:

Post a Comment