كتب الأديب الفاضل الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك، في عدد يونيو سنة ١٩٤٦ من مجلة الكتاب الغراء، بحثًا طريفًا عن الحجاج بن يوسف الثقفي، يريد به تفسير طغيان هذا الحاكم الجبار، وهو يعلل طغيانه الذي سجله بعض مؤرخي العرب بدمامته وضعف جسمه، وقصر قامته واعتلال صحته، والتواء نفسه وثورته على المجتمع ونفور النساء منه، ومرضه بالسرطان المعوي أو المعدي، ولا ندري كيف وصل الأستاذ الأديب إلى تشخيص هذا المرض ما لم يكن مرجعه الكاتب الفرنسي جان پرييه، فإذا كان الحجاج مات في الثانية والخمسين من عمره فلا يقوم هذا دليلًا على وفاته بهذا الداء.
وإنما أراد الأستاذ الفاضل أن يبحث عن مفتاح حياة الحجاج على الطريقة الحديثة حتى اهتدى إلى تعليل قسوته وظلمه بما وصفه سيجموند فرويد بالعقدة النفسية الناشئة عن مركب النقص، وهذا فتح جديد في تطبيقه على تراجم مشاهير العرب، وإن بعدت المسافة وتطاولت الدهور بيننا وبينهم، وقد لاح لي أن تاريخ العرب كما كتبه المؤرخون لا يصلح أن يكون مرجعًا علميًّا في مثل هذه المسألة الدقيقة؛ لأن تاريخ العرب انقلب في أيدي المؤرخين لونًا من الأدب المكتوب، وقد تصلح الدراسة النفسية في حالة الأحياء والمتعاصرين لسهولة الرجوع إلى المصادر الوثيقة، وأضرب مثلًا لذلك ما كتبه النقاد الفرنسيون في تراجم بول فيرلين وشار بودلير، وهما من مفاليك شعراء القرن التاسع عشر، ولم تمنعهما الفلاكة وإدمان الخمر وانحلال العصر وانحطاط الأخلاق عن بلوغ ذروة المجد الفني وتأسيس المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي، وقد نجح النقاد في التأريخ لهما؛ لأن الذين كتبوا عنهما عاصروهما وسجلوا سائر شئونهما، وتحروا الحقيقة في مصادرها، وأسهبوا إسهابًا بالغًا في الاغتراف من بحر الوثائق التاريخية الصحيحة.
أما الكتَّاب المحدثون أمثال إميل لدفيج الألماني وطنًا ولغةً، واليهودي جنسًا وملَّةً، فقد أفسد التراجم حين ابتدع لون التأريخ الرومنتيكي، بسرد حياة العظماء على صورة القصة الفنية، ومن قبل صنع ذلك توماس كارليل في حياة الأبطال، ولم يبلغ أحدهما شأو بلوطرخوس في تراجمه لكبار الإغريق والرومان؛ لأنه خلط الحقيقة بالخيال، وإن لم يترك شاردة ولا واردة من أخبار عظمائه إلا أحصاها، وهذه الطريقة الأدبية الفنية في كتابة التأريخ لا تصلح سندًا للثقافة الحديثة، مع الاعتراف بجمالها أو حذق مبتكريها، وكذلك العرب لم يحاولوا فيما أعلم تدوين تراجم دقيقة لأبطال الإسلام، ولم يتقنوا إلا تسجيل الأخبار القصيرة، وأطالوا في رواية الشعر، فكان في الأغلب المصدر الصحيح لسيرة الشعراء ومفتاح حياتهم، فضلًا عن أن المؤرخين أطاعوا أهواء الملوك.
***
وأحب أن أبادر بأن بعض كتَّاب العرب عرفوا مركب النقص ولكنهم لم يتخذوه وسيلة لتعليل معايب الأخلاق عند العظماء، وإنما ذكروه مشفوعًا بما اتخذه العظماء من وسائل في مقاومة عقدتهم النفسية ومحاربة مركب النقص، ليظهروا بمظاهر الكمال وتمام القدرة، ولم تكن المعايب البدنية سببًا في إغراقهم أو التواء أنفسهم، فقد كان زيد بن جندب أشفى أفلح، ولم يمنع هذان العيبان في فمه اشتهاره بالخطابة، ومن الخطباء من كان أروق وأشدق، أو أضجم أو أفقم، وهو اعوجاج في الفم وركوب السن الشفة، بل كان الأحنف الكبير على كثرة عيوب بدنه حكيم العرب وخطيبهم وحازمهم وباقعتهم ومقدمهم، قال عبد الملك بن عمير: «قدم علينا الأحنف الكوفة مع مصعب بن الزبير، فما رأيت خصلة تذم في رجل إلا وقد رأيتها فيه، كان أصعل الرأس (يعني دقيق الرأس، ودقة الرأس تدل من يحكم بظاهر الأمور على صغر العقل) أحجن الأنف، أغضف الأذن، متراكب الأسنان، أشدق مائل الذقن، ناتئ الوجنة (ونتوء الوجنة من أدلة الميل إلى الإجرام في رأي لمبروزو، مع أن الأحنف كان من حماة الفضيلة) باخق العين (أي أعور) أحنف الرأس (ومن هنا كان اسمه! …) ولكنه إذا تكلم أعجز وبهر، وفتن العقول وخلب الألباب، وأقر كل من سمعه عن قرب أو عن بعد بفصاحته ولباقته، وحكمته وجلال رأيه، وجمال نفسه، وكمال عقله، وذاع اسمه في الآفاق، وما يزال ذكره مقرونًا بالحلم وبالحكمة والهمة والعدل وفصل الخطاب.»
وكان واصل بن عطاء شيخُ المعتزلة الأشهر مصابًا بلثغة شديدة في حرف الراء ينطقها لامًا، فتجيء قبيحة؛ لأنها تحكي نطق الأطفال، والراء من أكثر حروف الهجاء ترددًا في الحديث والخطابة، ولكن رجاحة عقل واصل صانته عن زلل اللسان، فاستغنى في كلامه وخطبه عن الراء بتاتًا، حتى وصفه الشاعر بقوله:
ويجعل البُرَّ قمحًا في تصرفه
وجانَبَ الراء حتى احتال للشعرِ
ولم يطق مطرًا والقول يجعله
فعاد بالغيث إشفاقًا من المطرِ
وسأل أحد أتباع واصل: كيف كان يصنع في العدد بعشرة وعشرين وأربعين وكيف كان يصنع بالقمر والبدر ورمضان ورجب (وكلها ذوات راءٍ؟) فأجابه بشعر صفوان:
مُلقَّن ملهم فيما يحاوله
جمٌّ خواطره جوَّابُ آفاق
وقد ذكرنا هذا القليل من عيوب الذات والمنطق عند بعض فحول المشاهير، أمثال الأحنف وواصل بن عطاء وزيد بن جندب، لندلل على أن مركبات النقص كانت معروفة عند العرب، ولا سيما في القرن الأول الذي عاش فيه الحجاج، ولكنهم لم يعيروه التفاتًا، ولم يتخذوا منه سببًا لانحطاط الرجال أو تشويه أخلاقهم.
لقد عرف العرب كل مركبات النقص التي زعم فرويد أنه اكتشفها، وفي مقدمتها زلة اللسان Lapsus Lingue وهي من أدق مركبات النقص وأكثرها شيوعًا، كان محمد بن راشد البجلي يتغدى وبين يديه شبوطة (لون من الطعام) وخياط يقطع له ثيابًا، ورآه يلحظ الشبوطة، فقال ابن راشد: قد زعمت أن الثوب يحتاج إلى خرقة (أي تكملة من القماش) فكم مقدارها؟ فأجاب الخياط: ذراع في عرض الشبوطة (وهو يقصد في عرض القماش!) ودخل آخر على رجل يأكل أترجة بالعسل، فأراد أن يقول السلام عليكم، فقال: عسليكم (لانشغال باله بالعسل). ودخلت جارية رومية على راشد البستي لتسأله عن صحة زوجته، فبصرت بحمار في الدار فقالت: مولاي كيف … حماركم؟
وليست العبرة بذكر هذه الزلات الطارئة، ولكن العبرة بفطنة الأدباء إلى تدوينها واستنتاج ما يترتب عليها، وقد وصفوا الحجاج ورووا خطبه، وذكروا مظالمه وجبروته وشدته وتعسفه في الأحكام وقوة شكيمته، ولكنهم لم يحاولوا ربط تلك المعايب بما ظهر من الغلظة في أقواله وأفعاله، وإنما ذكروا القسوة والشدة في مجال التنديد بقوته وهو حاكم يسوس الخلق وينظم الدولة ويطفئ ثورة الخوارج ويردع البغاة وينفذ أوامر الخلفاء ويخضع للشريعة ويطيع القانون ويعامل كل محكوم بما يستحق في نظره، ولا يغيب عن ذهننا أن عصر الحجاج كان عصر فتنة وثورة وكان أعداء النظام والحضارة أكثر من الموالين لهما، والعرب في عنفوانهم حديثو العهد بالإسلام، قريبو الصلة بالجاهلية والحمية والأنفة والفطرة البدوية، وإلا فأين شدة الحجاج في القرن الأول الهجري من شدة جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك الأعرج، بل من طغيان هتلر وموسوليني وفرنكو وعشرات أمثالهم من رجال العصور الحديثة عصور المدنية والإنسانية؟
***
عابوا على الحجاج أنه كان معلم صبيان، وقد درج العامة على وصف المعلمين بالحماقة ظلمًا، ومن أمثالهم «أحمق من معلم كتَّاب!» وذكرهم صقلاب الشاعر بقوله:
وكيف يُرجى العقل والرأي عند من
يروح على أنثى ويغدو على طفل؟
وفي قول بعض الحكماء: «لا تستشيروا معلمًا ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء.» مع أن رعاة الغنم من أعقل الناس، وكان الأنبياء كلهم رعاة، وفي مقدمتهم إبراهيم الخليل، ثم إسحاق ويعقوب، وكذلك كان موسى، ومحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، رعى غنمًا في بطحاء مكة، ولم يبق لأمثال هذه الخرافة سبب ولا وجه يقبل، وإنما هي العداوات الشخصية وأحقاد المهنة ورغبة الانتقاص، والمعلمون في كل وطن أعلام الزمان ومصابيح الهداية، بيد أنه لم يثبت بصفة قاطعة أن الحجاج كان معلم كتَّاب ولكن أبوه كان معلمًا، ولم يصل داء التعليم إلى العدوى بالوراثة.
ثم إن كل قاضٍ مسلم في العصر الأول، وكل والٍ وكل قائد، كان فقيهًا، والفقيه معلم بطبيعته، وكان الحسن البصري من أعلام المتصوفة والفقهاء وأهل الحكمة والعدل معلمًا، وكذلك كان واصل بن عطاء، وكذلك كان سقراط وأرسطو وأفلاطون وكنت وهيجل، كما كان الغزالي وابن الهيثم أساتذة ومعلمين، وهم أئمة الفلسفة في المدنيتين الغربية والشرقية، ولم يتهمهم أحد بالحماقة، ولكن نار العداء التي أشعلها الحجاج بفصاحته وقوة بديهته وإقدامه وصرامة أحكامه، في زمن كانت فيه الصرامة واجبة لاستتباب أمور الدولة، حرَّكت الألسنة والأقلام للحملة عليه، ولم يقم أحد من المؤرخين المنصفين بردِّ اعتباره كما فعلوا في فرنسا في حق روبسبيير ومارات، وهما من أكبر الخطباء الأحرار والمصلحين الأبرار، ولكن عصرهما كان عصر فتنة، وكان أتباع الملكية وأنصار العهد القديم، عهد الاستبداد، أعزَّ مالًا ونفرًا، وأقدر على الكتابة والنشر وتدويخ خصومهم وتشويه سمعتهم حتى بعد موتهم.
***
فعلينا إن أردنا النقد التاريخي، وهو خير وبركة، أن نتبع أولًا طريقة البحث Méthode كما جلاها ديكرت في كتابه، وأفاض فيها هيجل في «فلسفة التاريخ»، وكما فعل أستاذ الأجيال ابن خلدون وتبعه وقلده بوكل الإنجليزي في «تاريخ الحضارة الإنجليزية»، وإن كانت الشهرة العامة عن قسوة الحجاج قد غلبته أحيانًا، لا يجوز لي أن أنسى أن الحجاج كان الدعامة التي قامت عليها الدولة الأموية، وهي أعظم دول الإسلام قاطبة، والأساس الذي كانت بدونه تنهار الدولة ولا تصل إلى العباسيين، ولا تدوم الحضارة في الشام والعراق ومصر سبعة قرون، إلى أن دمرها التتار بقيادة هولاكو، بيد أن الثورات التي نشبت في العراق نفسه، ولا سيما ثورتا شبيب الشيباني (٧٧ﻫ) وثورة ابن الأشعث (٨١ﻫ) لم يقو على القضاء عليها قائد ولا حاكم سوى الحجاج.
***
لم يعيبوا على الحجاج دمامته واعتلال صحته وسرطانه (؟!) ومهنة التعليم التي لم يمارسها وحسب، بل عابوا عليه أيضًا انتسابه إلى ثقيف! نعم إني لم أضمر حبًّا لأهل الطائف عاصمة ثقيف؛ لأنهم أساءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في يوم قائظ وهو يدعوهم إلى الإسلام، ولكن لا أعيب عليهم شدتهم في دفاعهم عن وطنهم في الحروب الأولى، ولا أنتقد تمسكهم بدينهم الوثني قبل أن يتثبتوا من حقيقة الإسلام، وعلى كل حال فلم يكونوا أكثر قسوة على النبي عليه الصلاة والسلام من أهله وقومه وبني وطنه وعشيرته الأقربين، وإن كانوا همُّوا بالردة فقد ارتد قوم من قريش مسقط رأس الرسول وموطن الخلفاء الراشدين، ولكن كلمة واحدة من عثمان بن عفان ردت ثقيفًا إلى رشدها، قال عيسى بن يزيد: «ولما همت ثقيف بالارتداد قال لهم عثمان: معاشر ثقيف، لا تكونوا آخر العرب إسلامًا وأولهم ارتدادًا فسمعوا وأطاعوا.»
أما فيما خلا هذا فقد كانت الطائف وما حولها، من أخصب الأرض وأكثرها خيرًا وأنبتها لنوابغ الرجال في الفروسية والشعر والشجاعة والسياسة، ولم يكن الحجاج عجبًا بينهم، بل كان من أهل المواهب المعروفة، لسبب طبيعة الأرض ونقاوة الإنسان وجمال الموضع وارتفاع الجبال، وجمال النساء، وعفة الرجال وحكمتهم.
قال عثمان بن أبي العاصي الثقفي لبنيه «يا بني قد أمجدتكم في أمهاتكم، وأحسنت في مهنة أموالكم، وإني ما جلست في ظل رجل من ثقيف أشتم عرضه، والناكح مغترس، لينظر امرؤ حيث يضع غرسه، والعرق السوء قلما ينجب ولو بعد حين.» فسمعه ابن عباس فقال: يا غلام اكتب لنا هذا الحديث. (رواية عيسى بن يزيد بن دأب في الأغاني).
ومن فحول شعرائهم أبو محجن الثقفي الشهير بقصيدته التي يقول فيها:
كفى حزنًا أن تطعن الخيل بالقنا
وأترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
***
وحقيقة الأمر أن الحجاج كان مكروهًا من أهل العراق وحدهم، وهم قوم ورثوا أهل بابل وآشور، وكانوا قبل الإسلام يعبدون الكواكب، ومنهم الصابئة، وبعث الله لهم أنبياء كثيرين لم يهتدوا بهم، ومنهم إبراهيم الخليل (بلده أور الكلدانيين)، ونوح الذي دعا عليهم دعوات مجلجلة، ويونس فأرهقوه حتى ألقى بنفسه في اليم فابتلعه الحوت، وكان دأب هؤلاء القوم قديمًا الخضوع للقوة والشدة، كما روى المؤرخون عن ملكهم حمورابي بعد سارجون الأول، فليس عجيبًا أن يبغضوا في صدر الإسلام حاكمًا قوي الشكيمة، مع قرب عهدهم بالوثنية، وجوارهم للفرس والكلدان.
وكان يعاصر الحجاج شيخ صالح خطيب لسن، هو جامع المحاربي، قال للحجاج حين بنى مدينة واسط: «بنيتها في غير بلدك وأورثتها غير ولدك!» ولما شكا له الحجاج سوء طاعة أهل العراق وتنقم مذهبهم وتسخط طريقتهم، قال له جامع المحاربي: «أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.»
أي إن جامعًا المحاربي الخطيب الفطن المعاصر للحجاج لم ير شيئًا من معايب الحجاج الجسمية أو النفسية سببًا في كراهة أهل العراق له، ولكن انتقد طريقة حكمه، وتلك الطريقة لم يخترها الحجاج إلا بعد التفكير والاختبار، ولذا نجد الحجاج بعد موعظة جامع المحاربي يدعو الله فيقول: «اللهم أرني الغي غيًّا فأجتنبه، وأرني الهدى هدًى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالًا بعيدًا، والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه، ولما بقي أشبه من الماء بالماء.» فهل هذا كلام الطغاة الجبابرة وأول ما يخطر ببالهم أن يجحدوا النعمة وينكروا الألوهية، ويزعموا التحكم في الخلائق والتصرف في العباد؟!
وقد ذكر الأستاذ الفاضل فريد أبو حديد بك أن الحجاج لم يعرف الإنسانية، ولم يكن له صديق، فما قوله في ذلك الحوار وتلك المناجاة والدعوة الحارة الصادقة!
لقد اكتوى الحجاج بنار العراق وملأه الغيظ، ولذا تراه في خطبه يصفهم وصف الخبير المجرب، بل وصف عالم النفس العريق في علم الأخلاق، فقد خطبهم بعد معركة دير الجماجم التي خذلوه فيها أمام ابن الأشعث، خطبة من نار، لم ينس أن أهل العراق كانوا سببًا في هزيمة عليٍّ ونزول الحسن عن الخلافة رغم أنفه، ثم في مصرع الحسين بن عليٍّ، قال الحجاج يشرح حاله مع الرعية: «إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة! هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاوٍ، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا تبعتموه وأويتموه ونصرتموه ورحبتموه؟»
وقد ظن الحجاج من شدة ما لقي من أهل العراق أن الشيطان نفسه قد استبطنهم، فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف، ولكنه في نفس الموقف الذي خطب فيه تلك الخطبة النارية، وقبل أن يتنفس، التفت إلى أهل الشام في عطف ودعة وعرفان للجميل، وقال: «يا أهل الشام! إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه، ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنُّها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذئاب، يا أهل الشام أنتم الجُنَّة والرداء، وأنتم العدة والحذاء.»
فهل يعقل أن رجلًا واحدًا يجمع بين هاتين العاطفتين في طرفة عين، إن لم يكن شاعرًا بالحنان والشكر والوفاء والأمانة والعفة لأهل الشام، وبنقيض هذه جميعًا حيال القوم الذين أذاقوه المر، وهو يريد صلاحهم وتعمير ديارهم، ونصرتهم على أعدائهم؟ لو كان الحجاج قاسيًا في خطبة أهل الشام قسوته على أهل العراق، لأمكن القول بأنه طاغية جبار لا يفرق بين قوم وآخرين، شأن الطغاة البغاة المستبدين، ولكنه حاكم حصيف مميز، لا يضع السيف موضع الندى، ولا يضع الندى موضع السيف، ولكنه يكيل لكل فريق بالكيل الذي يستحقه.
***
ودير الجماجم الذي اختصه الحجاج بالذكر كان علمًا على معركة دامية، هُزم فيها جيش الحجاج بسبب تودد أهل العراق في ثورتهم التي رفع رايتها عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وهو من فضلاء الفقهاء والقواد، وقد تبعه قوم كثير، ولكن الغلبة كانت أخيرًا للحجاج لثباته وحنكته، ومع تقديرنا العظيم لابن الأشعث وأسباب حركته الثورية، لا يسعنا إلا ذكر غروره وتعجله، فقد قاتل الحجاج في المربد كما قاتله في الزاوية ودير الجماجم، فأخذه الزهو قبل النصر، فخطب الناس فقال: «أيها الناس! إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة، تضرب بها يمينًا وشمالًا، فما تلبث إلا أن تموت!» فمر به رجل من قشير فقال: «قبح الله هذا ورأيه، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس، ويعدهم الأضاليل، ويمنيهم الباطل!»
وهذا الرجل من بني قشير يشبه كثيرًا من يسمونه في العصر الحاضر «رجل الشارع» الذي ينطق بالحكمة دون معرفة سابقة أو خبرة ظاهرة، وكثيرًا ما يصدق ظنه وتتحقق خواطره، فقد انتصر الحجاج في النهاية على ابن الأشعث، وانجلت المواقع عن فوز الوزغة التي لم يبق إلا ذيلها؛ لأن الحجاج كان بصيرًا بالحرب والسياسة.
ولم تكن خطب الحجاج كلها لاذعة محرقة كما يتوهم بعض المتحاملين عليه، ولم يكن دائمًا مقذعًا، بل كان كثيرًا ما يعظ الناس وعظًا عاليًا، وينثر عليهم درًّا غاليًا، فقد روى مالك بن دينار، وهو من الشيوخ المحدثين، قال: غدوت إلى الجمعة فجلست قريبًا من المنبر فصعد الحجاج المنبر، ثم قال: «امرؤ زوَّر عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته، ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند قلبه زاجرًا، وعند همه ذاكرًا، امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله قبله وتبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفه.»
وتُروى هذه الخطبة بتمامها في «فصل ما روي عن الحجاج من الكلمات النافعة» ص١٢٨ وما بعدها من ج٩ من كتاب البداية والنهاية في التاريخ للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر القرشي المعروف بابن كثير، طبع مصر، ولم يكن مالك بن دينار وحده الذي يُعنَى بصلاة الجمعة مع الحجاج، بل كان للحسن البصري إمام زمانه في الفقه والتصوف والحديث عناية به، واهتمام بأقواله وأفعاله.
***
كتب الأستاذ الفاضل فريد أبو حديد بك أن الحجاج كان في مسلكه مع الخلفاء الذين يستطيعون عزله يظهر نوعًا من الذلة عجيبًا، يحار المؤرخ في تفسيره، وأنه إنما كان ينبعث في حياته عن نفس تضمر الشعور بالذلة (ص٢١٢ ج٨ مجلة الكتاب)، وفي تاريخ خلفاء بني أمية أنهم كانوا يتملقون عملاءهم وقوادهم، وفي مقدمتهم الحجاج، فلما استعمل يزيدُ ابنَ أبي مسلم بعد الحجاج قال: «أنا كمن سقط منه درهم فوجد دينارًا.» وفي هذه الكلمة من تمليق العامل الجديد (ابن أبي مسلم) على حساب العامل القديم (الحجاج) ما فيها، قال يزيد لابن مسلم: «قال أبي (يقصد الوليد بن عبد الملك) للحجاج: إنما أنت جلدة ما بين عيني وأنا أقول: إنك جلدة وجهي كله.» فهذا الخليفة الأموي يتقلب بين التمليق في حضرة عامله، وبين التقليل من قدره في غيبته وبعد وفاته، ولم يكن الحجاج على شيء من النفاق حتى يذل لهذا الخليفة الذي صعد المنبر يومًا فقال: «علي بن أبي طالب لُص ابن لُص صب عليه شؤبوب عذاب!» فقال أعرابي كان تحت المنبر: «ما يقول أميركم هذا؟ وفي قوله لص ابن لص أعجوبتان، إحداهما رميه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بأنه لص، والأخرى أنه بلغ من جهله ما لم يجهله أحد، أنه ضم اللام في لص.»
ولا يمكن اعتبار الحجاج عبدًا ذليلًا لأمثال هؤلاء الخلفاء، كما أراد الأستاذ الأديب فريد بك أن يصوره عندما قال: «إن الحجاج لم يكن ملكًا ولم يكن له الفضل في بناء دولة من الدول،؛ لأنه إنما كان يسطو بسيف وضع له في يده، ويدل بسلطان لم يكن له فضل في بنائه.» وكذلك كان الخلفاء الوارثون بعد وفيات مؤسسي الدول، كمعاوية، وحتى معاوية كان يتقرب إلى القائد النابغ الذي صان كيان دولته وهزم أعداءه وهو زياد ابن أبيه، فكافأه بأن ألحقه بنسبه، أخًا لأب، ورفعه إلى درجة الإمارة وأسماه زياد بن أبي سفيان، وهذه الحال بين الملوك والوزراء والقواد ما تزال شائعة في عصرنا هذا، فإن الملك فكتور عمانوئيل هو الذي وضع السيف في يد بينيتو موسوليني وسلمه زمام الدولة، وأطلق عليه لقب الدتشي، وحياه بتحية الفاشست، ثم تنكر له عند هزيمته، وكذلك الرئيس هندنبرج، رفع هتلر إلى مقام المستشار ومهد له سبيل الحكم.
فإن أردنا أن نتخذ من التاريخ أدلة على سير الأمور وتسلسل الحوادث، فلنذكر دائمًا الحقائق كاملة لاستنباط النتائج الصحيحة، فنرى أن كل ما يبنى على تذلل الحجاج للخلفاء طمعًا في رضائهم ثم انقلابه على الرعية لينتقم منهم بالقسوة وسفك الدماء تعويضًا عن مذلته لسادته، إنما بني على تحكم بعيد عن النصفة، ولا سيما ما قاله الأستاذ فريد بك «فكانت قسوته على المحكومين مقرونة إلى جانب ذلته أمام الخلفاء، وهما معًا يدلان على أنه إنما كان ينبعث في حياته عن نفس تضمر الشعور بالذلة، ويلتمس الوسائل للتعويض عنها كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا.» لأن الحجاج كان في كل أحواله صادقًا مخلصًا لمبدئه وفكرته، وكان الجد في الحياة أظهر صفاته، شأن كل رجل يقطع العمر في نضال عنيف، بعيدًا عن العواطف الرخوة والضعف الذي تقتضيه الرفاهية والدعة والطراوة التي درج عليها كثير ممن كانوا في مكانته أو أقل منها، سواءً في زمنه أو في زمننا هذا، والدليل على جده وعدله واعتداله أن أبا الحسن الماوردي روى في «أدب الدنيا والدين»: «أن الحجاج خطب يوم جمعة فأطال الخطبة فقال رجل (وكان للرعية شجاعة في الحق حتى مع الحجاج): «إن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك.» فحبسه الحجاج، فأتاه أهل الرجل وكلموه فيه، وقالوا: إنه مجنون! فقال الحجاج: إن أقر بالجنون خليت سبيله، فقيل له: أقر بالجنون، فقال الرجل: لا والله! لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني! فأعجب الحجاج بجوابه، وعفا عنه لصراحته وإبائه أن يفتري على الله، ويتهم نفسه بالجنون باطلًا ليخرج نفسه من الحبس.»
ومن أهم أخبار الحجاج عن حفيد عمار بن ياسر قال: «خرج الحجاج يريد العراق واليًا عليها في اثني عشر راكبًا على النجائب حتى دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار، فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
إلى آخر الخبر الذي فيه قوله: «إن أمير المؤمنين عبد الله بن مروان نثر كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرها عودًا وأصلبها عمودًا، فوجهني إليكم»، ثم قدومه ملثمًا وكشفه عن وجهه بعد ذلك، سر ذلك أن العرب اتخذوا اللثام؛ لأنه أهيب في الصدور، وأجل في العيون، والمتقنع أروع من الحاسر، وطرح القناع ملابسة وابتذال ومؤانسة ومقاربة، وقديمًا قالوا من تطؤه العيون تطؤه الأقدام.
فلم يكن الحجاج إذن ظالمًا ولا متعنتًا ولا متصنعًا، وإنما كان يتبع قواعد الحكم الصالح، ويترسم خطى السلف من الصحابة والتابعين.
وكان الحسن البصري يعتبر الحجاج سيفًا من سيوف الله، يجعلها للانتقام من الأمم الظالمة، فقال عنه يومًا: «كان الحجاج يتلو كتاب الله على لخم وجذام، ويعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبارين، اتقوا الله فإن عند الله حجاجين كثيرًا.» وليس في هذا القول مبالغة لمن يعرف بني أمية ودولتهم (انظر خطبة أبي حمزة يحيى بن المختار أحد نساك الإباضية وخطبائهم، ص٦١ ج١ من البيان والتبيين للجاحظ).
أما أسباب نجاح الحجاج وشهرته، فلا ترجع إلى قسوته وشدته أو إهراق الدماء، إنما ترجع إلى رجاحة عقله، وعدم تقيده بالأوهام، واستقلال فكره، وإقدامه وصدق عزمه وبصره بالحرب والسياسة، وفصاحة لسانه وبلاغة كلامه، وهو مدين في هذا لجنسه العربي وثقافته واجتهاده وأدبه، فقد كان كل شيء مما له صلة بالقول والرأي للعرب بديهة وارتجالًا، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابرة ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وكان الحجاج فارس هذا الميدان، وبطل هذه الطريقة، وإمام الفن في عصره، فما هو إلا أن يصرف إرادته إلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من صحبه، وقد امتاز العرب على كل الأمم بهذه الخصوصية، فكان للهند معان مدونة وكتب مجلدة متوارثة على وجه الدهر، وللإغريق فلسفة وصناعة منطق، وقد كان صاحب المنطق نفسه (أرسطو) بكئ اللسان غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وفي الفرس خطباء، إلا أن كل كلامهم وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن دراسة كتب، فكانت حكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث من علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.
فوجب على الناقد والمؤرخ أن يشيد بفضل كل عربي أحيا تلك الموهبة الجليلة، وشق لنفسه طريقًا في الحياة بالحرب والسياسة، ثم بالفصاحة ورجاحة الرأي وقوة الشكيمة وحفظ كيان الدولة، وأن نعد الحجاج وأضرابه — وهم قليل — من مفاخر الحضارة العربية، وحماة اللسان العربي، وبناة الوحدة العربية، وأصحاب الفضل فيما نستمتع به من ثمار الأدب والبلاغة والفنون الرفيعة، مما شغف به علماء المشرقيات، وصرفوا فيه أعمارهم، وبذلوا أموالهم، ولا سيما أن الحجاج كان محسودًا من الأغيار، كالفرس والكلدان، الذين نفسوا عليه فصاحته وحصافته وسطوته وسلطانه وحسن تصريفه الأمور، فحرضوا أهل العراق على قتله، ومن هؤلاء الحساد المحرضين على عصيانه وخيانته ابن بصيهري البابلي، حين شكا إليه الدهاقين الحجاج، قال: أخبروني أين مولده؟ قالوا: الحجاز، قال: ضعيف معجب (لحقده على أهل الحجاز قاطبة) قال: فمنشؤه؟ قالوا: الشام، قال: ذلك شر وأنكى! ثم قال: ما أحسن حالكم إن لم تبتلوا معه بكاتب منكم (يعني من أهل بابل) فابتلوا بزاذان فروخ الأعور! … ثم ضرب لهم مثلًا فقال: إن فأسًا ليس فيها عود ألقي بين الشجر، فقال بعض الشجر لبعض: ما أُلقي هذا ها هنا لخير! قال: فقالت شجرة عارية: إن لم يدخل في است هذا منكن عود فلا تخفنه؛ أي إن الفأس وهي قطعة من الحديد لا تصلح لقطع الشجر إلا بعود من الشجر نفسه، فإن لم يوضع لها العود لتمسك به ما استطاع إنسان أن يقطع بها فرعًا، كذلك الكاتب البابلي يدل الحاكم الأجنبي على عورات أمته، فيعرف أمورها ويتمكن منها، وهذا المثل صالح في الاستعمار الحديث، فإن معظم أعوان المستعمرين في الشرق من أهل الشرق أنفسهم، كما كانت الحال في أول عهد العرب بالحكم في البلاد التي فتحوها.
فتأمل هذه الدعاية الفارسية تارة، والكلدانية طورًا، ضد الحجاج، ثم ثورة الخوارج، وفتنة شبيب الشيباني، وثورة عبد الرحمن بن الأشعث، ورعونة بعض الخلفاء ونفاقهم، وتغلب أهل العراق وعبادتهم أهواءهم، تجده بطلًا من أبطال الحرب والسياسة ودعامة قوية من دعائم الحكم العربي، ورائدًا من رواد العظمة الشرقية، ومؤسسًا في مقدمة بناة الدولة الأموية.
وهذا هو الذي يعني التاريخ ويعنينا، أكثر مما لو كان بغيضًا إلى النساء، أو جميل الصورة، أو مديد القامة صحيح البدن، فإن عبرة التاريخ في حياة الرجال بجلائل الأعمال، لا بمركبات النقص التي ابتدعها أمثال فرويد ليفتُّوا في عضد أهل هذا العصر الحديث، فأبت سعة اطلاع الأستاذ فريد بك وتوقد ذهنه إلا أن يطبقها على من ماتوا من أبطالنا منذ اثني عشر قرنًا.
المراجع
(١) الأغاني.
(٢) البداية والنهاية.
(٣) أدب الدنيا والدين.
(٤) البيان والتبيين.
(٥) نيكلسون تاريخ الأدب العربي.
(٦) ماسنيون «ثورة ابن الأشعث» في الجزء الأول من كتابه عن الحلاج.
(٧) مجلة العالم الإسلامي طبع باريس.
No comments:
Post a Comment