ليس هذا الكتاب تاريخًا لحياة الأستاذ توفيق الحكيم فيما يقول، ولكنه تصوير دقيق لحياته إلى أن أصبح كاتبًا معروفًا، وما أظن هذا يرضيه، ولكنه الحق على كل حال.
فالذي يُنبئُنا بأنه وُلِد هادئًا لا يصيح ولا يبكي كما يفعل كل وليد، والذي يحدثنا عن طفولته الأولى وعن تعلمه منذ اختلف إلى الكتاتيب، ثم إلى المدرسة الابتدائية إلى أن يظفر بإجازة القانون، والذي يحدثنا عن البيئات المختلفة التي تنقل بينها أثناء طفولته الأولى، وفي آخر الصبا وأول الشباب، ويحدثنا عن ذهابه إلى فرنسا وعودته منها دون أن يظفر بإجازة الدكتوراه؛ لأنه لم يحفل بالقانون، وإنما عني بالثقافة عامة، وفن التمثيل خاصة، والذي يصور لنا حياته في باريس، وعودته إلى مصر، وتقلُّبه بين المناصب المختلفة، إنما يكتب لنا تاريخ حياته.
بل هو يذهب إلى أبعد من هذا، فهو يحاول أن يفسر هذه الحياة، ويرد كثيرًا من ظواهرها إلى الوراثة، ويحاول أن يرد هذه الوراثة إلى أبويه يعطي كل واحد منهما نصيبه من هذه الحياة. ولا يكتفي بكتابة تاريخ حياته، ولكنه يجتهد في أن يفلسفها، ويريد أن يقسم ظواهر حياته بين أبويه، فيحدثنا عما يمكن أن يكون قد ورث من طبع أبيه، وما يمكن أن يكون قد ورثه عن طبع أمه، إنما يصور تاريخ حياته تصويرًا دقيقًا، ويضيف إليها فلسفتها، وهو مع ذلك ينبئنا بأنه لم يكتب تاريخ حياته.
وسواء أرضاه هذا الحديث أم لم يرضه، فإني أؤكد أنه قد أعطانا صورة واضحة لحياته كل الوضوح، دقيقة كل الدقة، ومع أنه يزعم أن أمله أكبر من جهده، وأن جهده أكبر من موهبته، وأن موهبته سجينة طبعه الذي ورث أكثره عن أبويه؛ فإني أؤكد أولًا أن أمل كل كاتب أكبر من جهده، وأن هذه هي مزية الكاتب الجدير بهذه الصفة، كما أنها مزية الشاعر الممتاز والفنان البارع بوجه عام، وويل للأديب الذي يكون أمله على قدر جهده؛ فهذا الرجل ليس من الأدب الحق في شيء، إنما هو الأديب المتكلف، والمتكلف لما لا يحسن ولما لم يخلق له. وأما أن يكون جهده أكبر من موهبته، فقد يكون هذا على شيء من الحق؛ لأن الأستاذ توفيق ينحرف عن موهبته أحيانًا، ويغامر بها فيما لم تُهيَّأ له كما فعل في أمرين — على الأقل — أذكرها الآن.
أولهما: حين أراد أن يكون فيلسوفًا وينشئ نظرية التعادل، مع أن موهبته لم تخلق للفلسفة ولم تهيأ لها، وإنما خلقت لإنشاء القصص التمثيلي الممتع، والثاني: حين حاول أن يكتب القصص غير المعقول، فكتب يا طالع الشجرة وما يشبهها، مع أنه لم يخلق لهذا، وإنما خلق ليكون معقولًا حين يكتب وحين يقرؤه قُرَّاؤه. وأما أن موهبته سجينة طبعه، فلا غرابة في هذا؛ لأن المواهب كلها سجينة الطباع التي فطر عليها أصحابها، وليس من الممكن غير هذا؛ لأن مانحها يلائم دائمًا بين ما يَهبُ وما يفطر الناس عليه، فلا يُؤاخِذُ الأستاذ توفيق إذا قلتُ: إن هذه العبارة التي ابتدأ بها كتابه أشبه شيء بالسراب يحسبها الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجد شيئًا.
وبعد هذا كله أقول — لا لأرضي صاحب الكتاب، بل لأرضي الحق: إن هذا الكتاب ممتع، وأشهد لقد قرأته مرتين في أقل من ثلاثة أيام، وأقل ما فيه من المتعة أنه يصور حياة كاتب بارع أحبه الناس وكلف به أكثرهم، ثم لا يكتفي بتصوير حياة الكاتب وحده، وإنما يصور حياة أبويه. ولست أدري ماذا يكون تاريخ الحياة إذا لم يكن وصفًا دقيقًا لمولد الكاتب ونشأته وأطواره التي تنقل بينها حتى انتهى إلى مكانته المرموقة الآن، وإذا دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن أمل الأستاذ توفيق الحكيم أكبر من جهده. قد أرَّخها تاريخًا دقيقًا. وحياته في نفسها جديرة بأن تُؤرَّخ؛ فهي حياة نادرة في بيئتنا، وإن كانت مألوفة في بيئات كثيرة.
وقد نبأنا أنه مشغوف بالكاتب الفرنسي أناتول فرانس، فليعلم إذن أن هذا الكاتب الفرنسي العظيم لم يظفر بالشهادة الثانوية، وإنما أضحك منه لجنة الامتحان حتى وصفه أحد الممتحنين بأنه حمار؛ فليحمد صديقنا لربه أنه قد ظفر بالشهادة الثانوية، وبشهادة الليسانس في الحقوق، ولا بأس عليه إن لم يظفر بالدكتوراه، بل هو المسئول الأول عن ذلك؛ لأنه حين ذهب إلى باريس لم يطلب هذه الدرجة، وإنما طلب الثقافة العامة وفن القصص التمثيلي. ودرجة الدكتوراه في الحقوق، أو في الآداب، أو ما شئت من الدراسات لا تهبط على الناس من السماء، وإنما على الناس أن يَجِدُّوا ويَكِدُّوا ليظفروا بها.
وصاحبنا لم يبذل في سبيل الدكتوراه جهدًا أكبر من موهبته أو أصغر منها، ولو كان أبواه في باريس حين ذهب إليها لبذل هذا الجهد، ولأصبح دكتورًا في الحقوق على رغمه.
والمهم هو أنه كتب لنا كتابًا قيِّمًا ممتعًا؛ لا لأنه أرَّخ لنا حياة كاتب ممتاز فحسب، بل لأنه مع ذلك أرخ للتمثيل في مصر تأريخًا دقيقًا مفصلًا شيِّقًا واضحًا كل الوضوح، ثم صور لنا حياته الأدبية أدق تصوير وأبرعه، حتى كأننا كنا معه نسجل ما اختلف عليه من الأطوار. وليس هذا كله بالشيء القليل، وإذا كان هذا كله لا يكفيه ولا يرضيه؛ فليس ذلك غريبًا ولا متناقضًا لطبائع الأشياء؛ لأن الكاتب المتقن لفنه لا يرضى عما يكتب إلا إذا ملأه الغرورُ واستأثر بعقله وطبعه.
وقد كنا نجهل — أو كان أكثر قرائه يجهلون — أنه قد كتب القصص التمثيلي أثناء دراساته في مصر، وأن بعض ما كتب قد أتيح له أن يُمثَّل ويراه النَّظَّارة، ولم أكن أعلم أنه كان يكتب شعرًا أو ما يشبه الشعر. كان يكتب كلامًا يلحنه الملحنون، ويغنيه المغنون، ولست أدري لما أعرض منذ ذهب إلى فرنسا عن هذا اللون من الكلام الذي يغني فيه. ومن يدري لعله لو استمر على كتابة هذا النوع من الشعر وما يشبه الشعر لكان أكثر من كاتب القصص التمثيلي، ولأضاف إلى ذلك إنشاء الأوبرا والأوبريت، ولكن فرنسا فيما يظهر قد صرفته عن هذا اللون من القول.
وأنا أشكر للكاتب إشارته إليَّ وذِكْرَه أننا صِرْنا صديقين، ولكني لا أدري لماذا لم يبين كيف صرنا إلى الصداقة. ومن يدري لعل ذلك لأن طبعه أكبر من موهبته ومن جهده ومن أمله معًا؟
ويقول الكاتب: إنه قد ورث عن أبيه — رحمه الله — كثيرًا من الخصال؛ منها: إيثار كالاقتصاد في الإنفاق والقول، ولعله قد نسي خصلة أخرى، وإن كنت لا أدري عمن ورثها؛ وهي الاقتصاد في الحركة أيضًا.
فهو قليل الحركة لا يطيق إنفاق جهده في شيء غير الكتابة، ولعله لا يشق على نفسه وحدها في ذلك، وإنما يشق على غيره أيضًا، ولست أدري أكان أبوه — رحمه الله — تغريه وتسيطر عليه رؤية الدنانير، ولكني أعلم لأنه سجل ذلك في بعض كتبه. أعلم أنه كان يساوم ناشرًا للكتب، فلما رأى في يد هذا الناشر ورقة مالية لم يستطع أن يستمر في المساومة، وإنما أعطى الكتاب وأخذ الورقة ذات العشرة الجنيهات.
ولست أصدق ما يردده دائمًا من أنه يؤثر المال إلى حد البخل به، لا أصدق ذلك لأني جربت كرمه وسخاء يده في البذل، وقد قلت ذلك حين استقبلته في المجمع اللغوي، وإن كان قد عتب علي في ذلك بعد انتهاء الجلسة، معللًا عتبه بأن هذا القول قد يطمع فيه الناس، ويغري به أصحاب الحاجات.
وأنا على كل حال أهدي إلى الكاتب الصديق تهنئة خالصة، وشكرًا جميلًا؛ لأنه تفضل فلم يرسل إليَّ كتابًا من كتبه منذ سنين، فله الشكر كل الشكر، وإن كنت أرجو أن يأذن لي في أن آخذ شيئًا من هذا الشكر لأهديه إلى الصديق الكريم الذي أعارني هذا الكتاب.
No comments:
Post a Comment