كانت تُسمى فيما مضى من الزمان مدينة السلام، وكانت تُسمى أيضًا دار السلام، وكانت تُسمى في كثير من الأحيان مدينة الإسلام. وكان هذا كله حين استقر فيها الخلفاء العباسيون الذين مدُّوا ظل الخلافة على الشرق العربي كله، والذين أنزلوا العلم والأدب والفن والفلسفة من قلوبهم أثبتَ المنازل وأرسخها، والذين وقفوا صفوة جهودهم على ترقية الحضارة وتقويتها، والذين لم يفرغوا قط — أو لم يكادوا يفرغون — من تدبير الحرب والقيام على الإعداد لها، ويدبرونها مرة من بعيد ويقودونها مرة من قريب؛ يفعلون ذلك لحماية الحضارة وحياطة الدين وتأمين الناس على أنفسهم وأموالهم وأعمالهم، من غارات الأجنبي على الحدود، ومن ثورات المبتدعين في الدين والخارجين على النظام والمفسدين في الأرض؛ الذين استجابوا لأهوائهم وانقادوا لشهواتهم واندفعوا في مغامراتهم، لا يحفلون بشيء ولا يرهبون شيئًا ولا يرجون لأحد ولا لشيء وقارًا.
مدينة السلام والإسلام
وعلى رغم هذه الحروب المتصلة والثورات التي لم تكن تخمد إلا لتشب؛ فقد كانت مدينة بغداد مدينة السلام دائمًا ومدينة الإسلام دائمًا، لم يضطرب فيها الأمن ولم يختل فيها النظام ولم تبلغها الحرب، بل لم تدنُ الحرب منها. كانت آمنة كل الأمن، يفرغ العاملون فيها للعمل، ويفرغ العلماء فيها للعلم، تنشر المعرفة في أرجاء العالم القديم كما لم تنشرها مدينة إسلامية قبلها أو بعدها، ولم يكن لهذا كله مصدر إلا لأنها كانت في تلك الأيام مدينة الأمن والإسلام والسلام جميعًا.
كذلك كانت فيما مضى، فأين هي الآن من الأمن والإسلام والسلام؟ وأين الأمن والإسلام والسلام منها …؟
جواب هذا السؤال في هذه الأيام يملأ القلوب حزنًا، ويملأ النفوس ألمًا؛ فهي أبعد ما تكون من الأمن، وأقصى ما تكون من الإسلام، وأنأى ما تكون عن السلام. لا يستطيع إنسان أن يسعى فيها أثناء النهار المبصر إلا والوجل رفيقه في كل خطوة يخطوها، والفزع صاحبه حين يستقيم له الطريق وحين ينحرف به، فهو خائف إن رأى مقبلًا عليه، وهو خائف إن أحس ماشيًا من خلفه، لا يسمع نبأة ولا يحس حركة إلا أشفق أن تكون نذيرًا لشر يرقبه أو هولًا قد أُرصد له، يريد أو يود لو استقر في داره؛ ولكنه لا يلبث أن يحقق في نفسه أن الاستقرار في الدار والخروج منها سواء؛ لأن الهول الذي يُصب على الناس قد تجاوز كل طور، فهو لا يرعى حرمة ولا يُقدر حقًّا، قد رخصت عنده حياة الإنسان، وأُهدرت عنده حقوقه، ومضى في سبيله لا يلوي على شيء، لا يبقي على شيء أيضًا.
وكذلك ودَّع الأمن هذه المدينة إلى أجل قد يطول وقد يقصر، ولكنه ودَّعها وترك فيها فتنة مظلمة، ثم لم يلبث أن ودع العراق كله وترك الناس يموج بعضهم بعضًا، وأقاموا أمرهم كله على الخوف والمكر والخداع. فارق الأمن بغداد وفارقها السلام أيضًا، وأقامت الحرب فيها، ولكنها الحرب المنكرة التي تثور بين أبناء الوطن الواحد، وتقطع ما بينهم من أسباب الإخاء والمودة، وتجعل بأسهم بينهم شديدًا؛ قوم منهم يحاربون لأنهم باعوا أنفسهم للأجنبي، وأصبحوا له أتباعًا وخُدامًا، ولم يكتفوا بأن يبيعوا وطنهم لهذا الأجنبي وأن يردوه إلى الرق بعد أن عرف الحرية واطمأن إليها، وفتح لنفسه في ظلها آمالًا لا تحد في العزة والكرامة وفي السؤدد والرخاء، وقوم آخرون يحاربون لأنهم لا يريدون أن يُردوا إلى الرق ولا أن يفرِّطوا في الحرية بعد أن ذاقوها واستحبوا مذاقها، ولا أن تغلق من دونهم آمالهم العراض بعد أن فتحت لهم أبوابها.
***
وكذلك فارق الأمن والسلام بغداد، بل فارق الأمن والسلام العراق، وأصبح أهله أعداء بعد أن كانوا بنعمة اللَّه إخوانًا، وأبى الإسلام وأبت العروبة أن يفارقا وطنًا أصلًا من أوطانهما، قد استقرَّا فيه وازدهرَا منذ عهد بعيد جدًّا قبل أن يوجد الاستعمار والمستعمرون، وقبل أن توجد الشيوعية وأصحاب الشيوعية. وأقام الإسلام والعروبة في العراق، ولكن على قلق وإشفاق واستبسال في المقاومة، وفقدت بغداد كل حال هذه القيم العليا التي كان اسمها يضاف إليها. قيم الأمن والسلام والإسلام والعروبة … وكانت بغداد بل كان العراق قد اختلفت عليها محن كثيرة، وتتابعت عليهما خطوب وأهوال لا تكاد تُحصى، وأظلهما الظلم والجهل قرونًا طوالًا، وخُيل إليهما منذ حين أن قد آن للظلم أن تنجلي ظلمته، وآن للجهل أن تنقشع سحبه المتراكبة المتراكمة، وأن تعود الحضارة والعلم منهما إلى مستقرهما القديم. ولكن كيد الاستعمار شديد، وكيد الشيوعية أشد … فلم تكد الغمرات تنجلين حتى عادت أدراجها، فملأن بغداد والعراق شرًّا ونكرًا، وكان العلم قد حاول أن يعود إلى العراق وأن يستقر فيه أثناء العصر الحديث، كما استقر فيه أثناء العصور الأولى، ولكنه يُنفى الآن من أرض العراق بفضل الاستعمار والشيوعية، كما نُفي قديمًا من أرض العراق بفضل التتار وغيرهم من عشاق الجهل وأحباء التخريب الذين استعمروه قبل أن يستعمره الغرب الأوروبي، وقبل أن تطمع فيه الشيوعية وتطمح إليه.
وكان العراق يُمتحن في عصوره العربية القديمة بكثير من الفتن التي كانت تنشر فيه الخوف والهلع، وتشيع في أهله الشر والنكر، ولكنه كان دائمًا يقاوم هذه الفتن، على كل حال، أن تبلغ بغداد ولا أن تُشيع فيها خوفًا ولا ذعرًا.
***
في العراق ظهر الخوارج الذين كانوا يقرءون القرآن لا يكاد يتجاوز تراقيهم، كان ذلك يُروى عن النبي ﷺ، في حديث معروف، والذين كانوا يحتكرون الإسلام لأنفسهم وينكرونه على غيرهم، والذين كانوا يستحلون سفك الدماء ونهب الأموال، والذين نغَّصوا على ولاة العراق وأمرائه أيامهم وأرَّقوا لياليهم، ولكن فتنتهم تلك على طولها وكثرة شرها ونكرها، لم تسيطر على العراق في يوم من الأيام ولم تمنعه من أن يكون أهم المراكز الإسلامية للثقافة والعلم على اختلاف فروعهما.
وفي العراق ظهرت ثورة الزنج التي أفسدت أمور البصرة وأزعجت عاصمة الخلافة، ولكنها لم تستطع أن تسيطر على العراق ولا أن تزعزع مكانته في الثقافة والعلم والحضارة. ومن العراق انبعثت ثورة القرامطة التي أزعجت العراق والشام وكادت تبلغ مصر، والتي آمنت بشيء يشبه الشيوعية من وجوه كثيرة، ولكنها لم تُظهر الإلحاد ولم تُمعن فيه، وخمدت نارها آخر الأمر دون أن تتمكن من السيطرة على العراق.
وفتن كثيرة أخرى امتُحن بها العراق في عصوره العربية الأولى، ولكنه كان دائمًا ينتصر عليها ويمنعها من أن تسيطر عليه.
فالعراق يُمتحن بالفتن منذ أقدم العصور العربية، ولكنه منتصر على الفتن دائمًا، في أهله مناعة وقدرة على المقاومة وثبات على عروبته ودينه. وما أشك في أن الفتنة التي تفسد عليه أمره الآن ستنجلي غمرتها في وقت يقصر أو يطول، وأكبر الظن أنه لن يطول.
***
والأمر كله محتاج إلى الصبر والثبات والمقاومة والامتناع على الطامعين والطامحين، والذين يتحرقون ظمأ إلى السيطرة عليه وإلى استغلال أرضه واستذلال أهله، والأمر محتاج أيضًا إلى أن يشعر أهل العراق بتضامن إخوانهم العرب معهم وتأييد ما يبذلون من جهد وما يقدمون من تضحية؛ ليظلوا كما كانوا دائمًا جديرين بتاريخهم، وليظل وطنهم كما كان مركزًا من مراكز العروبة وموطنًا من مواطن الثقافة والحضارة والعلم.
والعالم العربي كله مدين بالتضامن مع العراق والتأييد لمقاومته لهذا التراث العربي الخطير الذي قدمه العراق إلى العرب في عصوره القديمة. وما أعلم أن العرب يحبون جحود الجميل، وما أعلم أن العرب يُقصرون في أداء الواجب حين يُطلب إليهم أداؤه، وكل شيء يطالبهم الآن بأن يؤدوا واجب التضامن والتأييد لإخوانهم في العراق وبألا يريحوا ولا يستريحوا، حتى يخرج العراق ظافرًا من هذه المحنة المنكرة، وحتى ينتصر على الاستعمار الغربي والشيوعية، وحتى تعود بغداد إلى ما كانت بسبيله من الجد والكد في استرداد مجدها القديم، وفي أن تعود كما كانت مدينة السلام ودار السلام ومدينة الإسلام.
No comments:
Post a Comment