Thursday, February 13, 2014

إبراهيم عبد القادر المازني : العراق بين ماضيه وحاضره - مجلة الكتاب ديسمبر ١٩٤٥




سمعت صديقًا عراقيًّا أديبًا يقول: «إن العراق لا يقر له قرار، وإنه أبدًا في قلق وتحفز، وليس من شأن ذلك أن يكفل له اطراد التقدم.»
وضحك وقال: «لعلك لم تنسَ ما قال الحجاج.»
يشير إلى كلمته المشهورة: «يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق والله … إلخ».
فقلت له: «إن ما زعمه الحجاج غير صحيح، ولست أحتاج أن أقضي في العراق عمري لأعرف ذلك، فإن به من مصر مشابه كثيرة، والحجاج وأمثاله من الطغاة هم الذين يجنون على الأمم، ويورثونها ما تسميه أخلاق الشقاق والنفاق التي تعيبها.»
والحقيقة أنه لم يظلم العراق أحد كما ظلمه الحجاج بهذه الكلمة، وأي شيء أظلم من أن يصبح العراق متهمًا بأنه — دون أمم الأرض — بلد النفاق والشقاق؟ أهو بدع في الخلق؟ أيدخل في عقل عاقل أن تتميز أمة من الأمم وتنفرد بهذه الأخلاق؟
وعندي أنه يجب التفريق بين الطباع الأصلية، والأخلاق المكتسبة، وينبغي أن يسأل الإنسان نفسه: لماذا ينافق المرء؟ وماذا ينزع به إلى الشقاق؟ وأحسب أن الجواب أنه ينافق لأنه يخاف ولا يطمئن إلى عواقب الصدق والصراحة، ولا يرى أنه في أمان من صروف الحذر، فهو يلقي نفسه — مضطرًا لاتقاء الشر أو اجتلاب الخير — إلى المصانعة والتقية.
وكل امرئ في هذه الدنيا يحتاج إلى قدر من المصانعة؛ لأنه لا يسعه أن يكون صادقًا صريحًا في كل حال، وما أظن إلا أن الدنيا تفسد، والحياة تعود وهي مما لا يطاق لو كان كل إنسان يُظهِر ما يبطن، ولا يجري لسانه إلا بما يدور في نفسه، ولكن هذا القدر من المصانعة الذي لا تطيب الحياة إلا به، ولا تستقيم أحوال الناس بغيره شيء، والنفاق الذي تضطر إليه الأمة شيء آخر، مختلف جدًّا، فالأول ليس أكثر من وسيلة تصفو بها العلاقات بين الناس من الأكدار، وأما الثاني فأثر من آثار الاستبداد، وكل أمة إذا طال عهدها بالحكم الفردي الاستبدادي تلقي نفسها مكرهة على اصطناع النفاق وتوخيه، حتى يصبح ذلك وكأنه طبيعة فيها أو مما فطرت عليه، وليس الأمر كذلك، فإن بضعة أجيال من الحكم الصالح القائم على الحرية وتحري العدل وإيتاء الناس حقوقهم، والمساواة بينهم، تغني الأمة عن ضرورة النفاق.
والنفاق وليد الخوف، ولا خوف في ظل العدل والمساواة والحرية، وقد ابتُلِيت مصر، كما ابتُلِي العراق، بأدهار طويلة من الحكم الاستبدادي الغاشم، فأورثهما الرغبة في إيثار العافية، وهو ما نسميه النفاق، وما هو إلا مظهر للمحافظة على الذات، أو الدفاع عن النفس؛ لأنه إذا كان المرء غير آمن على نفسه أو ماله، أو غير واثق من العدل، أو غير مطمئن إلى احترام الحقوق، فما حيلته إلا أن يصانع ويداري ويماذق ليتحفظ بمصلحته، أو يجتنب الأذى ويتقي السوء ويأمن الظلم والعسف؟
والمرء ينزع إلى الشقاق إذا لم يرضَ عن حاله، ومن ذا الذي يرى العدل قائمًا، والحرية مكفولة، والحقوق مرعية، وفرص السعي والنجاح في كل ميدان متاحة لذوي المواهب، ثم يذهب يتسخط ويثير الشقاق ويجنح إلى الفتنة؟ لا أحد سوى الذين مُنوا بالعجز أو أسرفوا في الطمع، واشتطوا في طلب ما ليس لهم بحق، وهؤلاء لا يعتدُّ بهم ولا تأثير لهم.
ومهما يبلغ من عدل المستبد المستأثر بالحكم، فإن الأمر فيما يمس الشعب يكون أشبه بالمقامرة، فهو موكول إلى الحظ لا إلي القانون والحق، ومن هنا قلت لصديقي العراقي: إن الحجاج وأمثاله من الطغاة البغاة هم الذين يحوجون الأمم إلى أخلاق النفاق، ويضطرونها أن تنزع إلى الشقاق، ومن هنا أيضًا كانت هذه أخلاق ضرورة، تزول بزوال دواعيها وبواعثها، أيْ متى حل العدل محل الظلم، وقامت الشورى مقام الاستبداد، واطمأن الناس إلى حرياتهم العامة والخاصة، ووثقوا من أن حقوقهم في أمان من العدوان.
فإذا كان في العراق أو مصر نفاق — فإنهما سيان — فهذه علته، أو شقاق فداعيه ما أسلفنا عليه القول، وقد صار العراق — كمصر — دولة حرة مستقرة، ذات دستور وبرلمان، ولكن الأمر لم يستقم بعدُ، لا هنا ولا هناك، وهو يحتاج إلى زمن غير قصير حتى تستوفي الأمة حظها من التعليم الصالح والتربية الاستقلالية القويمة، وتتدرب على استعمال حقوقها، وتدرك قيمة هذه الحقوق فتحرص عليها، وتضن بها أن يعبث بها عابث، أو يغالطها في حقيقتها مغالط، وحينئذٍ يحل الأمن محل الخوف، والعلم محل الجهل، فتصبح الثقة والاطمئنان مدار السلوك.
ويقول صديقي العراقي: إن العراق قَلِق متحفز، فهو لذلك لا يستقر، والظواهر تؤيده، فإن الوزارات تقوم وتسقط بسرعة، ولا تكاد تبقى في الحكم زمنًا يكفي للقيام بأعمال الإصلاح، وهذا أيضًا حال مصر، وكل ما بينهما من فرق أن الجيش في العراق تدخَّل غير مرة لإسقاط وزارة وإقامة وزارة، وقد سمعت غير واحد من إخواني العراقيين يقول: إن الشعب لا يطيق أن يطول عمر وزارة، فإذا بقيت سنة بدأ يتململ ويضجر، ويظهر السخط ويطلب تغيير الحال.
ولست أستغرب هذا أو أرى فيه شذوذًا أو خروجًا عن حد الصحة في الأمة، فإن تعليله سهل، ذلك أن الأمة إذا فازت بالاستقلال بعد معاناة عهد طويل من حكم لم يكن لها فيه رأي أو قول أو شأن، تشتد رغبتها في تعويض ما فاتها وإدراك مَن سبقها، وعلى قدر تنبهها ويقظتها يكون إلحاح هذه الرغبة وقوتها، فنراها بعد أن تستيقظ نفوسها تأسف على الماضي الذي ضاع وهي في غفلة من جراء الجهل والاستبداد بها، وتحس بحاجة إلى الإسراع في السير لتصل إلى حيث تتطلع، وتبلغ ما تعتقد أنها جديرة به من منازل الكرامة والعزة والرقي، وتقيس حالها إلى حال غيرها، وتوازن بين مرتبتها والمراتب التي ارتقى إليها سواها، فتلفي نفسها متخلفة عن ركب الأمم، فتستعجل، وتستبطئ كل عامل مصلح، مهما بلغ من اجتهاده لها وابتغائه لخيرها، لأن كل ما ينجزه من الإصلاح يبدو لها قليلًا يسيرًا بالقياس إلى ما تنشد، فتتململ وتتبرم، ولا تحس أنها راضية، لأن العمل دون الأمل، ولأنها تنظر بعيونها فترى الأمم الأخرى تُغِذُّ السير بل تطير، على حين تحس هي أنها تمشي بخطوات السلحفاة، وقد لا يكون هناك بطء حقيقي، ولكنها تشعر بالبطء وتستثقله، لأن آمالها كبار، ونظرتها إلى الهدف البعيد والغاية القصوى، ولأنها تنسى وهي تتطلع إلى ما تنشد، قلةَ الوسائل عندها، وتوفُّرَها عند سواها من الأمم التي سبقتها في الميدان، وتغضي عن كونها حديثة عهد بتولي أمورها، وأن الأمم الأخرى تتولى جميع أمورها بنفسها منذ قرون.
وهذه هي الحال في العراق ومصر على السواء، ومن هنا كان السخط الذي لا ينفك يظهر، والتذمر من بطء السير.
على أن هناك علة أخرى مشتركة، بين مصر والعراق، ذلك أن الأمر في البلدين إلى الأمتين في الظاهر، أما الحقيقة فهي أن الأجنبي لا يزال يملك من الأمر كثيرًا، ولأصابعه الظاهرة أو الخفية أثر فيما يكون، فالأمر ليس كله إلى الأمة، وإن كان هذا هو المفروض، ومهما أخفى الأجنبي أصابعه وسترها فإن الأمة لا يخفى عليها أن الأصابع تلعب من وراء الستار، إذا كانت لا تلعب جهرة، ومن الغفلة الشديدة أن يتوهم متوهم — أجنبيًّا كان أو مواطنًا — أن الأمة لا تفطن إلى لعب الأصابع الأجنبية.
ثم إننا لطول عهدنا بالاستبداد — في مصر والعراق على السواء — أصبحنا نميل إلى سوء الظن، وهذا بعض ما يجنيه الاستبداد على الأمم، فنحن لا نصدق أن الأجنبي قد كُفَّت يده عن العبث، وأنه نفضها من شئوننا كل النفض، وكل عمل نراه نروح نبحث عن أثر الأجنبي فيه، لأننا فقدنا الثقة من زمان طويل بحكَّامنا، أي من تلك الأيام التي كانوا يتولون فيها أمورنا على الرغم منا، وقد نكون مخطئين في قياس الحاضر على الماضي، بل نحن مخطئون في الأكثر والأغلب، ولكن الإنسان إنسان، وهو لا يستطيع أن يتخلص بسهولة مما ورثه في الماضي الطويل، فله العذر إذا أساء الظن، وليس مما يعين على إحسان الظن أن يكون للأجنبي قوة حربية في بلادنا بالغة ما بلغت من الضآلة أو قلة الكفاية، ومهما قيل في صفة هذه القوة، وأنه ليست لها صبغة الاحتلال، فهي قوة أجنبية، ووجودها معناه ومؤداه التلويح بها للضغط، فلا اطمئنان مع وجودها إلى حرية التصرف، وإمكان إهمالها كأنها ليست هناك.
والعراق ومصر على حق في سوء ظنهما بما يؤدي إليه وجود القوة الأجنبية في البلدين، واعتقادهما أنهما من عوائق الرقي، فهي من بواعث الضجر والسخط وعدم الاستقرار.
وفي العراق ما ليس في مصر مثله، مثال ذلك: أنه قريب من الاتحاد السوفيتي، وأن فيه جماعات غير عربية لا يؤمَن أن تستخدمها الدول المجاورة أو المتصلة به للتآمر على كيانه، فهو لهذا في حيرة غير هينة: يكره أن يكون لبريطانيا مركز في بلاده، مهما بلغ من هوان شأنه وقلة خطره، ولكنه من ناحية أخرى يخشى غير بريطانيا، ويحب أن يطمئن، فيلفي نفسه محتاجًا إلى عون بريطانيا، ويرى الدسائس الأجنبية تحاك، ولو كان قد بلغ من القوة والبأس ما يتطلع إليه لاطمأن إلى قدرته على القضاء عليها بمفرده، دون أن يحتاج إلى معين. ثم إن تعداده قليل، وهو على قلة عدده لا يزال في بداية النهضة، فماذا يصنع؟ أيعتمد على بريطانيا؟ إنه لا ثقة له في قرارة نفسه ببريطانيا، وإن كانت ظروفه تحوجه إلى صداقتها، وقلة الثقة مرجعها إلى أن بريطانيا تنتهز الفرص لاستعادة نفوذها القديم بل سيطرتها السابقة، وإذا لم يحرص على صداقة بريطانيا فكيف يأمن جانب الطامعين فيه وفي موارده الطبيعية وخيراته، وفي مركزه الاستراتيجي؟ وهؤلاء الجيران ماذا تراهم يضمرون له؟ وهل يسعه أن يكافح روسيا وبريطانيا في آن واحد؟ إن هذه حيرة مزعجة ولا شك، لأنه يريد — بحقٍّ — أن يستقل بأموره استقلالًا تامًّا، ولكن بريطانيا — في بلاده — وروسيا على مقربة منه (ودَعْ تركيا وإيران) لا تدعان له سبيلًا إلى الاطمئنان، أفلا يكون معذورًا إذا سخط وصب نقمته على من يستطيع أن يصبها عليه؟ إن عذره واضح!
ولكن في العراقيين رجولة تبعث على الاحترام بل الإجلال، وستنفعهم هذه الرجولة في الخروج من المآزق السياسية التي زجت ظروفهم بها فيها، وأنا على يقين جازم من هذا؛ لأني عظيم الثقة بهذه الرجولة التي تبينتها فيهم، والتي جاءت الحوادث بالدليل الناهض عليها، وإنها لحسبهم، ومتى كانت الرجولة وافية، فإن لك أن تثق بأن صاحبها لن تنقصه صفة من الصفات الجليلة في مواقف الشدة والحرج.

No comments:

Post a Comment