أذهلت الاحتجاجات التي غمرت تركيا في الأيام الأخيرة كل المراقبين — مثلي — الذين ينتقدون حكم رئيس الوزراء طيب أردوغان الفاشستي نقدًا لاذعًا. فما بدأ كمظاهرة صغيرة ضد التدمير المتعمَّد لمساحة خضراء نادرة في وسط إسطنبول، تصاعد إلى مواجهات عنيفة في جميع أنحاء البلاد تضم عشرات الآلاف من الأتراك الساخطين من كافة الأطياف السياسية.
السبب المباشر في هذه المواجهات هو وحشية الشرطة. ومع أن الأتراك معتادون على سلوكيات جهاز الشرطة التركي الفظَّة، فإن الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي هذه المرة فجَّرَتِ الغضب على نطاق واسع؛ فقد رجحت أكثرية جروح الرأس أن الشرطة كانت تصوِّب قنابل الغاز المسيل للدموع على رءوس المحتجين مباشرةً. ومن بين الضحايا، كان أحمد شيك — صحفي جسور كان محبوسًا فيما سبق باتهامات ملفَّقَة — الذي انتشرت له صورة على نطاق واسع تُظهِر إصابته بجرح غائر رهيب في رأسه.
وقد أزكى ردُّ فعل أردوغان النيران، فقد كان في أمثل حالات الاستقطاب وهو يهدِّد بإطلاق مؤيديه في الشوارع، واصفًا معارضيه بالرعاع ووسائل التواصل الاجتماعي ﺑ «أكبر تهديد للمجتمع». كما صَبَّ المحتجون غضبهم على الإعلام الرسمي، الذي أظهر إحجامًا كبيرًا عن تغطية الأحداث — وذلك بلا شك تحت ضغط الحكومة. فقد اختارت القناة التركية التابعة لشبكة سي إن إن أن تعرض فيلمًا وثائقيًّا عن البطاريق أثناء بعض أسوأ الاشتباكات.
بالرغم من محاولة أردوغان وصم معارضيه بالتطرف، فإن ما يبدو هو أن معظم المتظاهرين يطالبون بحقوقهم الأساسية؛ وهو حق التجمع والتظاهر السلمي، والتعبير عن رأيهم الرافض للاتجار المفرط بالميادين العامة، وأن يعامَلوا باحترام ودون وحشية من جانب الشرطة. ليس هذا صراعًا بين العلمانيين والإسلاميين كما تميل وسائل الإعلام الغربية إلى تصويره، وإنما سوء استغلال حكومة أردوغان للسلطة — بوضوح وبساطة — هو ما وحَّدَ صفوفَ المحتجين.
كذلك تُعَدُّ الاحتجاجات دليلًا على ضعف الأحزاب المعارضة لأردوغان. فنظرًا لأن تلك الأحزاب قائمة على الانقسامات غير المهمة وغير المترابطة التي طالما شقت صف المجتمع التركي، فإنها لم تتمكن من توجيه السخط المتصاعِد والاستفادة منه، علاوةً على أن النخبة الليبرالية التركية جلبت الخزي على نفسها إلى حد كبير؛ إذ استمرت في دعمها لأردوغان لوقت طويل بعدما بات منهجه المتزمت واضحًا للعيان.
ثمة كثيرون في الغرب يعزون الفضل في أداء الاقتصاد التركي إلى أردوغان، حيث أعاد القوات المسلحة إلى ثكناتها، كما يعزون إليه الفضل في عملية السلام الأخيرة مع المتمردين الأكراد. ومع ذلك، دقِّقْ في هذين الأمرين جيدًا، وسوف يتلاشى بريقها بسرعة.
فعلى الصعيد الاقتصادي، أفضل ما يمكن أن يقال هو أن حكومة أردوغان تجنَّبَتْ ارتكاب أخطاء جسيمة. بالإضافة إلى هذا، استند النمو الاقتصادي على مستويات لا يمكن الحفاظ على ثباتها من الاقتراض الخارجي، كما أنه ليس متميزًا بصورة خاصة بمعايير الدول الناشئة. وهيمنت المحسوبية على الأشغال العامة.
في الوقت نفسه، تحقَّقت السيطرة المدنية على الجيش عبر سلسلة من المحاكمات الشكلية، انطوت على انتهاكات ضخمة للإجراءات القضائية — مع الاستخدام الفج لأدلة مدسوسة ومفبركة ضد الضباط المتهمين. وبدلًا من طيِّ صفحة العسكريين، فتحت أساليب أردوغان جروحًا جديدة لن تندمل.
وأخيرًا، ترتبط مبادرة «الانفتاح الكردي» بجهود أردوغان لتعديل الدستور، والوصول إلى الرئاسة (وهو منصب أقوى)، أكثر مما ترتبط بأية رغبة صادقة في التصالح. وكما تظهر مواقفه المتغيرة من الصراع الكردي، فإنه يغيِّر أساليبه بسرعة إذا ما تطلَّبَتِ الحسابات السياسية قصيرة الأمد شيئًا آخَر.
ربما يكون المستفيد الوحيد من مواطِن ضعف أردوغان حركة كولن، تلك الشبكة القوية التي يتزعمها الداعية الإسلامي فتح الله كولن. كان كلٌّ من أردوغان وحركة كولن متحالفين حتى وقت قريب لهزيمة عدوهم المشترك المتمثِّل في الجيش والنظام العلماني القديم، لكن عقب إنجاز المهمة، زاد الاختلاف بين الحليفين حدة؛ إذ لم تكن حركة كولن ترغب في أن تقوى شوكة أردوغان بشدة، في حين كان أردوغان حذرًا من مكائد المنتمين لحركة كولن داخل الشرطة والقضاء. ترغب الحركة في تعزيز الرئيس عبد الله جول — الأكثر قُرْبًا لها إلى حد كبير — باعتباره بديلًا متسامحًا وأكثر ديمقراطيةً لأردوغان.
إن مشاهدة حركة كولن لأردوغان وهو يتلقَّى اللوم على الاحتجاجات تدل على مفارقة واضحة؛ حيث إنه من المعروف أن حركة كولن تحظى بتمثيل جيد داخل الشرطة. ورغم أن من المفترض أنها حركة وسطية، فقد ارتبطت هذه الحركة عن كثب ببعضٍ من أسوأ انتهاكات الشرطة والقضاء تحت حكم أردوغان.
من المؤسف أنه لا توجد حركة سياسية منظَّمة يمكن أن تمثِّل وتعبِّر عن المحتجين الذين عبَّروا عن رأيهم بصوت مرتفع وواضح في الآونة الأخيرة. ومن ثَمَّ، فإن المنافسة بين أردوغان وحركة كولن، إلى جانب التطورات على الجبهة الكردية؛ هي ما يحدِّد المستقبل السياسي التركي.
في ظل إغفال النزعة الفاشستية لتركيا (أو التغافل عنها)، ينبغي أن يعلم أصدقاء تركيا أنه ما من أحدٍ من الممثلين الرئيسيين في هذه الدراما يمتلك مؤهلات ديمقراطية قوية. والتحدي هو تجنُّب سَرْد رواية أخرى سطحية عن إرساء الديمقراطية، وتوجيه نقد صريح للانتهاكات السياسية والقضائية، وانتهاكات حقوق الإنسان في تركيا — أيًّا كان المصدر.
No comments:
Post a Comment