ربما ظهر الإنسان المعاصر بشكله الحالي (الإنساني العاقل Homo Sapiens) منذ مائتي ألف عام أو أكثر قليلًا، ونظرًا لما تميز به هذا الإنسان من مخ كبير، وبالتالي عقل راجح، فإنه لم يعد يقتصر، مثل غيره من الكائنات، على التعايش مع البيئة، بل إنه لم يلبث أن أصبح صانعًا للحضارات بقدرته الفائقة على تطوير البيئة المحيطة وتطويعها لاحتياجاته. فرغم أن الإنسان لم يتغير فسيولوجيًّا؛ حيث ظل تكوينه البيولوجي على ما هو عليه، فقد زادت معرفته بالعالم المحيط، واستخلص العديد من القوانين الطبيعية والاجتماعية، مما مكنه من السيطرة على البيئة المحيطة وتطويرها بما يتلاءم مع احتياجاته. وهكذا ظهرت التكنولوجيا التي وفرت له — من خلال ما اكتشفه من قوانين وخصائص للطبيعة — إمكانيات الانتشار والتوسع والارتفاع بمستوى المعيشة. وكان من نتيجة ذلك أن تحسن مستوى معيشة الفرد وزادت رفاهيته، وظهرت الحضارات بكل ما لها وما عليها، ولكن لم تكن هذه هي النتيجة الوحيدة لقدرات الإنسان، بل كانت النتيجة الأخرى هي الزيادة المستمرة في عدد سكان العالم.
وقد ظلت إمكانيات الزيادة السكانية محدودة حتى قيام الثورة الصناعية، خاصة منذ منتصف القرن الثامن عشر؛ حيث قدر عدد سكان العالم آنذاك بما يتراوح من ٦٥٠–٨٥٠ مليون نسمة، وربما وصل هذا العدد إلى حوالي ١٫٥ بليون نسمة في بداية القرن العشرين، لكي ينتهي هذا القرن وقد تخطَّى عدد سكانه سبعة بلايين نسمة. وقد ظهرت هذه الطفرة السكانية خاصة منذ نصف القرن المنصرم في دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا. وقد تراوح عدد سكان مصر في عهد محمد علي باشا بين ٢٫٥-٣٫٥ ملايين نسمة، وبلغ هذا العدد عند قيام الثورة المصرية في ١٩٥٢ أكثر قليلًا من عشرين مليونًا؛ ليصل عددهم في بداية حكم مبارك حوالي ٤٢ مليونًا، والآن جاوز هذا العدد ٨٤ مليونًا، أي أننا نتضاعف كل ثلاثين سنة تقريبًا. أما أوروبا، ورغم ثرائها، فإنها تعاني — على العكس — من ضمور في عدد سكانها.
وليس هذا المقال حديثًا عن الزيادة السكانية في ذاتها، وإنما عن آثار هذه الزيادة على مفهوم الحريات، وخاصة عندما يزداد الازدحام والتركز في المدن الكبرى المكتظة بالسكان. والأمر هنا لن يقتصر على نتائج هذه الزيادة السكانية على التزاحم على الموارد الاقتصادية المتاحة، بل إنها سوف تتطلب أيضًا مزيدًا من الحاجة إلى الضبط والقيود على ممارسة الحقوق والحريات حماية لحقوق الآخرين.
وقد سبق أن تناولت قضية الديمقراطية والحريات في أكثر من مكان، وأكتفي هنا بتلخيص ذلك تحت ثلاثة مفاهيم متكاملة؛ المفهوم الأول: وهو ما يمكن أن يطلق عليه «المفهوم الجمهوري» أو «الديمقراطية التمثيلية»، ويقصد به اختيار المواطنين لحكامهم بالانتخاب لمجالس برلمانية وحكومات تحكم باسم الأغلبية وتحت رقابتها، وأما المفهوم الثاني للحرية: فهو يشير إلى تمتع الفرد، كل فرد، بمجال خاص لا يجوز الاعتداء عليه. وهذا هو «المفهوم الليبرالي» الذي بدأ مع جون لوك، والذي أصبح الآن مجالًا لحقوق الإنسان في حقه في الحياة، وفي حرية العقيدة وحرمة حياته الخاصة، وحرية التعبير والاجتماع، إلى آخر ما هو معروف تحت بند «حقوق الإنسان».
وأخيرًا هناك «المفهوم الاقتصادي والاجتماعي» للحريات، والغرض منه ليس فقط احترام حرمة مجال خاص للفرد، وإنما «تمكينه» من ممارسة هذه الحقوق، وذلك بتوفير مستوًى معقول من التعليم والرعاية الصحية وفرص العمل وحماية البيئة؛ فالحرية هنا لا تتوقف على «عدم الاعتداء» على حرية المواطن، وإنما تتطلب «تمكينه» من ممارسة هذه الحريات بتوفير الظروف الاقتصادية والاجتماعية المناسبة لاستخدام طاقة الفرد البدنية والعقلية. وبطبيعة الأحوال، فإن الحرية بهذه المفاهيم الجديدة ليست مجرد حقائق ثابتة، بقدر ما هي مفاهيم متحركة تتجه دائمًا للاتساع مع زيادة قدرات الوطن المادية وتطلعاته النفسية.
والسؤال هو: هل هذه الحريات بمفاهيمها المتعددة يمكن أن تتأثر بالضغط السكاني أم أنها مستقلة عنه؟ وعندما نتحدث عن الضغط السكاني فإننا لا نتحدث عن عدد السكان وحده، وإنما نتحدث عن عدد السكان إزاء الموارد المتاحة؛ فالولايات المتحدة بسكانها الذين يجاوزون ثلاثمائة مليون نسمة هي أقل كثافة سكانية من مصر بسكانها الثمانين مليون نسمة.
فماذا عن الحريات إزاء هذا التزاحم السكاني؟
أما فيما يتعلق بأثر التزاحم السكاني على الديمقراطية بالمفهوم السياسي القائم على انتخاب الحكام وخضوعهم للمسئولية أمام مواطنيهم، فإن التجربة البشرية لا تبدو واضحة، فأكبر دولتين من حيث الكثافة السكانية هما الصين والهند، وما زالت الأولى تخضع لنظام الحزب الواحد، في حين أن الثانية هي أكبر ديمقراطية في العالم؛ ولذلك يصعب القول بأن زيادة السكان تساعد أو تعرقل إقامة نظام سياسي ديمقراطي. ومع ذلك، فيبدو أنه مع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، وفي ضوء ثورة المعلومات والاتصالات، فإنه لا مناص من الحرية السياسية.
وماذا عن التزاحم السكاني والحقوق والحريات الفردية، وكذا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟ فأما عن المجال الخاص الذي يتمتع فيه الفرد بحرمة لحماية حرياته الشخصية، فلا شك أنه مع التزاحم السكاني، فإن الاختلاط والترابط بين الأفراد يزداد تداخلًا. فأنت لا تعيش بعيدًا عن الآخرين، وغالبًا ما تسكن عمارة يقطنها العديد من السكان، كما أن الطرق التي تمر بها تزدحم بالعديد من المارة والسيارات، ومدى ما تتمتع به من حرية يتوقف على سلوك الآخرين، وأولادك في المدارس والجامعات يدرسون مع عشرات أو مئات من الأولاد الآخرين، وهم يتأثرون أخلاقيًّا بما يرونه أو يسمعونه منهم، كما أن مرض طفل في مدرسة أمر لا يخصه وحده، بل قد يكون سببًا في انتقال العدوى إلى الآخرين وهكذا.
ففي ظل أوضاع الكثافة الخفيفة للسكان يتمتع كل فرد بحيز مادي أوسع يخفف عليه من تأثيرات الآخرين، أما مع الضغط السكاني، فأنت مضطر إلى العيش الدائم مع الآخرين في المسكن وفي الطريق وفي العمل وهكذا؛ ولذلك فإن ما يتمتع به الفرد من حقوق وحريات خاصة يتأثر كثيرًا بما يفعله الآخرون، فإذا رفعت صوت المذياع أو التليفزيون في أوقات غير مناسبة، فأنت لا تستخدم حقوقك بقدر ما تزعج الآخرين في راحتهم، وعندما تقود سيارتك فعليك مراعاة أحوال المرور، وعلى قاطني العمارات الكبيرة توفير نظافة منازلهم، وصيانة المرافق العامة المشتركة ليس فقط لمصلحتهم الخاصة فقط، وإنما حماية لحقوق الجيران.
وهكذا، فإن مزيدًا من التزاحم السكاني يعني الحاجة إلى مزيد من ضوابط ممارسة الحقوق والحريات لحماية حرمة الحياة الخاصة للآخرين أيضًا؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن تعرف المجتمعات المعاصرة العديد من القيود التي لم تكن معروفة في السابق مع الهشاشة السكانية؛ فالحديث عن حماية البيئة وقواعد المرور وآداب الجوار لحماية الجيران، كل هذه وغيرها زادت أهميتها مع التزاحم السكاني؛ فالفرد في المجتمعات كثيفة السكان لا يعيش منفردًا، ولكنه دائمًا في جوار مع غيره، وعليه أن يراعي هذا الغير في ممارسة حياته الخاصة أيضًا، وبالمقابل يتوقع أن يحترم الآخرون حرمة الحياة الخاصة به، وهكذا فإن الانفجار السكاني يتطلب مزيدًا من الضوابط والقيود على سلوك الأفراد حماية لحقوق وحريات الآخرين.
وإذا انتقلنا أخيرًا إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بتمكين الفرد بأن يصبح مواطنًا صالحًا، فإنه يتطلب توفير خدمات تعليمية مناسبة، ورعاية صحية كافية، وطرق وخدمات عامة وبيئة صالحة. وهذا كله لا يتحقق إلا مع دولة قوية تستطيع أن تفرض أعباء مالية كافية لكي تمكنها من أداء هذه الخدمات الأساسية. فأداء هذه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا يتحقق بمجرد نصوص في الدستور أو في القوانين، وإنما بتوفير الموارد المالية المناسبة للدولة حتى لا تظل هذه الحقوق حبرًا على ورق.
وفي كل هذه الأحوال، فإن وجود دولة قوية لا يكفي وحده، بل لا بد وأن يصاحبها مجتمع مدني واع وحاسم مع نوع من الضمير العام أو المجتمعي. وكانت العلاقات الاجتماعية الوثيقة في ظل المجتمعات الصغيرة قد تفسخت مع المدن الكبرى، وحيث الجميع «غريب»، وضاع معنى العيب» أو «الواجب». فمع التزايد السكاني، وحيث تتزايد الحاجة إلى الحرية بضوابطها بمختلف المظاهر، فإن الأمر يتطلب دولة قوية قادرة على توفير هذه الحقوق والحريات، وقادرة على تمويلها، وكذا مجتمع واعٍ وفعال. فالحقوق والحريات لا تتحقق بالأماني والتصريحات أو النصوص، بل تتطلب دولة قوية قادرة ماليًّا وسياسيًّا، ومجتمعًا سليمًا وصحيًّا. والله أعلم.
No comments:
Post a Comment