لا تقتصر الحمية الغذائية على سعرات حرارية يكتسبها الجسم وأخرى يحرقها؛ إذ تبرهن الاكتشافات الجديدة على أن ما تتناوله من طعام قد يؤثر تأثيرًا مذهلًا على جسدك وعقلك.
بالنسبة لمن يرغبون بيننا في التخلص من بضعة كيلوجرامات، غالبًا ما تتلخص نصائح الحمية الغذائية المعطاة إليهم في قواعد حسابية جامدة؛ تقليل كمِّ الطاقة المكتسبة عبر تناول طعام أقل، وزيادة كم الطاقة المبذولة عبر الإكثار من ممارسة التمرينات الرياضية. يبدو الأمر بسيطًا، باستثناء أن أيًّا ممن جربه يدرك أنه ليس كذلك.
يكمن أحد أسباب ذلك في أن تاريخنا التطوري أورثنا دافعًا قويًّا نحو تناول الأطعمة الدسمة حال توفرها. الآن توجد تلك الأطعمة في كل مكان فعليًّا، وعليه قد تتحول عملية مقاومة إغرائها لمعركة خاسرة لا تنتهي.
لكن الأمر لا يقتصر على هذا، فالتعامل مع الطعام باعتباره وحدات من الطاقة ليس إلا — فمثلًا كعكة صغيرة بقطع الشكولاتة تساوي ١٠٠ سُعْر حراري، وعُود كرفس يساوي سُعْرًا حراريًّا واحدًا — قد يجعل من فهم أنظمة الحمية مهمة أسهل لكنه ليس سوى حل فاشل. فالطعام يحتوي على ما هو أكثر بكثير من وحدات الطاقة؛ إذ يختزن بداخله جزيئات فعالة تُغيِّر من طريقة عمل التمثيل الغذائي داخل جسمك. لذا فإن احتمالات نجاحك في الالتزام بمتطلبات الحمية المنظمة للسعرات الحرارية التي تثير الحنق ليست في صالحك جديًّا.
يكتسب الرأي القائل بأن نموذج «السعرات الحرارية المكتسبة والمستهلكة» أبسط مما ينبغي قبولًا واسعًا طوال سنوات، فعلى ما يبدو تلعب مؤثرات أخرى متعددة دورًا فيه، بداية من البكتيريا التي تعيش في أمعائك وانتهاءً بطريقة طهو الطعام.
تهتم أحدث الاكتشافات بمكونات الطعام ذاته. فأجسامنا تتمتع بنظام دقيق يتحكم في الاستهلاك الغذائي ويُحدِّد مقدار ما يحفظه في صورة دهون، وقد اتضح أن في وسع جزيئات داخل الطعام إرباك هذا النظام. فبعضها يُحفِّز الشهية وتخزين الدهون، بينما يقوم البعض الآخر بعكس ذلك عبر تحفيز الدوائر الدماغية الكهربائية التي تكبح الشهية.
وبناءً على ذلك، يدعو بعض الباحثين إلى إعادة النظر في المفاهيم الغذائية؛ إذ يزعمون بفائدة النظر إلى الطعام على أنه يشبه مزيجًا من الهرمونات التي تؤثر على جوانب متعددة من علم الأحياء، من بينها عملية التمثيل الغذائي (مجلة ساينس، المجلد ٣٣٩، صفحة ٩١٨).
من ضمن أولئك الباحثين راندي سيلي — اختصاصي السمنة بجامعة سينسيناتي بولاية أوهايو — الذي يرى أن فهم طريقة عمل تلك «الهرمونات الغذائية» قد يمكننا من إعداد نظم حمية تقلب الموازين لصالحنا. كذلك قد تتضمن هذه الفكرة نتائج لعلاج الأمراض المتصلة بسوء النظام الغذائي؛ مثل: السكر، والأمراض القلبية الوعائية، بل وأنواع محددة من السرطان. إذا كان سيلي محقًّا، فإن علم التغذية قد أصبح على شفا حقبة جديدة.
لطالما كان هناك ارتباط وثيق بين الطعام والهرمونات، فالهرمونات هي من تحمل رسائل الجسد الكيميائية التي تبعثها الخلايا المتخصصة عبر مجرى الدم إلى جهات بعيدة. أحد أول الهرمونات المكتشفة هو الأنسولين الذي ينتجه البنكرياس عند تناول وجبات الطعام كي يعطي تعليمات لخلايا الكبد والعضلات والخلايا الدهنية بسحب الجلوكوز من مجرى الدم.
تُسلم معظم الهرمونات رسائلها عبر الاتحاد مع المستقبلات على أسطح الخلايا، ومن ثم تحفيز متتالية من تفاعلات الأيض بالداخل. بينما ينسل البعض الآخر داخل الخلية ويتفاعل مع المستقبلات داخل النواة، متحكمًا في التعبير الجيني على سبيل المثال.
كان يُعتقد فيما مضى أن الهرمونات مجموعة حصرية من الجزيئات تنتجها غدد متخصصة مثل البنكرياس والغدة الدرقية. لكنها أصبحت أكثر شمولًا بكثير مع اكتشافنا لشبكة معقدة من جزيئات الإشارة والمستقبلات، التي يشترك الكثير منها في عملية التمثيل الغذائي المولدة للطاقة. على سبيل المثال، اكتشف فريق بجامعة روكفلر في مدينة نيويورك عام ١٩٩٥ اللبتين؛ وهو هرمون تفرزه الخلايا الدهنية وينشط مستقبلات في الدماغ لكبح الشهية.
وفي نفس الوقت تقريبًا، لاحظ علماء آخرون أول العلامات الدالة على قدرة الطعام ذاته على التأثير مباشرةً في شبكات التحكم في الطاقة لدى الجسم. وفي أوائل التسعينيات، اكتشف الباحثون أن مجموعة شائعة لكن غامضة من المستقبلات داخل نواة الخلية — وهي المستقبلات التي ينشطها مكاثر البيروكسيات أو المُشار إليها اختصارًا بي بي إيه آر — من الممكن تنشيطها عبر الأحماض الدهنية.
نعلم أن تلك المستقبلات تلعب دورًا هامًّا في توازن الطاقة؛ إذ لم يكتشف أحد هرمونًا يتحد معها على وجه التحديد، ويبدو الآن أن وظيفتها هي استشعار مجموعة متنوعة من الأحماض الدهنية وغيرها من الجزيئات المشاركة في عملية التمثيل الغذائي للدهون. يعلق سيلي على هذا قائلًا: «إنها مستقبلات مصممة للإصغاء إلى الطعام.»
تخزين المزيد من الدهون!
لا تكتفي تلك المستقبلات بالإصغاء للطعام فحسب، بل تَردُّ عليه كذلك؛ إذ ينشِّط أحد أنواعها — والذي يوجد في الخلايا الدهنية ويُدعى بي بي إيه آر-جاما — الجينات التي تخلق خلايا دهنية جديدة وتُعزِّز تخزين الدهون، عند اتحاد الأحماض الدهنية به. كذلك يقلص هذا النوع من المستقبلات إنتاج نوع رئيسي آخر من ناقلي الرسائل في عملية التمثيل الغذائي المولدة للطاقة، ألا وهو البروتين الفاصل-١، الذي يأمر الخلايا بحرق الدهون لتوليد الحرارة. ويؤدي وجود مقدار أقل من البروتين الفاصل-١ إلى تخزين المزيد من الطعام في صورة دهون. وعليه لم يُفاجَأ الباحثون عندما تسبب تنشيط مستقبل بي بي إيه آر-جاما في زيادة وزن الفئران بينما أدى تثبيطه إلى التأثير العكسي.
بعبارة أخرى، لا يقتصر النظام الغذائي مرتفع الدهون على ملء جسدك عن آخره بالسعرات الحرارية، بل يجعل عملية التمثيل الغذائي لديك تميل ناحية السمنة، كما يقول سيلي: «أنت تُغيِّر القواعد البيولوجية التي تحكم كيفية تخزين جسدك للدهون تغيرًا دقيقًا.»
لا تتوقف الأمور عند هذا الحد بل تزداد سوءًا؛ إذ عثر العلماء كذلك على هذه المستقبلات في الخلايا الدماغية، وقد أثبت الباحث جيرولد أولفسكي في جامعة كاليفورنيا، بمدينة سان دييجو أنه عند إطعام الفئران غذاءً مرتفع الدهون، فإن ما يكتسبونه من وزن يرجع جزئيًّا إلى تأثير تلك المستقبلات، التي أدى تنشيطها باستخدام العقاقير إلى دفع الفئران لاستهلاك المزيد من السعرات الحرارية، واكتساب ضِعْف حجم دهون الجسم مقارنةً بحيوانات المجموعة الضابطة.
اكتشف أولفسكي وسيلي كذلك أن تقليل نشاط بي بي إيه آر-جاما في الفئران قد يتسبَّب في فقدان الوزن حتى في حالة تناول الفئران غذاءً مرتفع الدهون، رغم أن ذلك يتطلب تلاعبًا بالجينات. بينما قد يتيح تثبيط المستقبل باستخدام العقاقير طريقة أكثر قبولًا لتحقيق نفس التأثير لدى البشر الذي يتبعون حمية غذائية، كما يقترح سيلي.
ليست جميع الإشارات التي تحملها الأحماض الدهنية ضارة بالجسم. فربما تكون سمعت على الأرجح بأحماض أوميجا-٣ الدهنية، والتي تُوصَف على نطاق واسع باحتوائها على خواص مفيدة للصحة، وتُوجَد بعض الأدلة على أن تناولها قد يقلل من خطر الإصابة بمرض القلب التاجي والسمنة.
ويحظى حمضا الدوكوساهيكسانويك (دي إتش إيه) والإيكوسابنتينويك (إي بي إيه) بأعلى درجات التقدير؛ فقدرة الجسم على إنتاجهما محدودة. لذا يُعتمَد على مصادرهما الغذائية؛ مثل: الأسماك الدهنية، والبذور، والبندق. ويقول سيلي: «نحن نعلم بالفعل أن لأحماض أوميجا-٣ الدهنية آثارًا [إيجابية] طويلة الأمد على الصحة.» لكن السؤال المحوري هو: ما السبب وراء هذا التأثير؟
يبدو أن إجابة السؤال تكمن في خواصها الشبيهة بخواص الهرمونات، ففي عام ٢٠١٠ اكتشف فريق أولفسكي أن كلا الجزيئين يتحدان اتحادًا وثيقًا مع مستقبل من مستقبلات سطح الخلية يُدعى جي بي آر ١٢٠، ويوجد بوفرة على سطح الخلايا الدهنية. لهذا المستقبل تأثير هائل على عملية التمثيل الغذائي، ويرتبط انخفاض نشاطه بالالتهاب، وزيادة الوزن، وضعف التحكم في سكر الدم. وعلاوة على ذلك، اكتشف الباحثون في العام الماضي أن الأشخاص الذين يعانون من البدانة لديهم على الأرجح خلل جيني في مستقبلات جي بي آر ١٢٠.
كان المستقبل جي بي آر ١٢٠ يُعتبَر حتى عهد قريب مستقبلًا «يتيمًا»؛ أي لم يُكتشَف الهرمون الذي يتحد معه. لكن يبدو الآن أن وظيفته هي الاستجابة إلى الأوميجا-٣ في الطعام، وهو ما يُقدِّم دليلًا آخر على أن البدانة لا تقتصر على حسبة السعرات الحرارية البسيطة.
بالنسبة لمعظم الناس، يؤكد هذا فحسب على أهمية اتباع نظام غذائي متوازن، لكن بالنسبة لحفنة من تعساء الحظ فإن الأمر أكثر خطورة. فوفقًا لإحدى الدراسات، يتعرض حوالي ٣٪ من الناس لحدوث طفرة في مستقبل جي بي آر ١٢٠؛ مما يرفع خطر إصابتهم بالبدانة بنسبة ٦٠٪. والنتيجة أنه في حالة عدم تناول غذاء صحي قد يصبح للعيوب الجينية الصغيرة تأثير ضخم، وذلك وفقًا لفيليب فروجيل الباحث بجامعة إمبريال كوليدج لندن والذي اكتشف هذه الطفرة؛ إذ يُعلِّق قائلًا: «يتسبب نمط حياتك في تعظيم تأثير الجينات.»
تُعتبَر مستقبلاتُ جي بي آر ١٢٠ أهدافًا رئيسية للأدوية التي قد تساعد على إيقاف انتشار البدانة. يعلق فرانك ريمان — الباحث بمعهد كامبريدج للبحث الطبي بالمملكة المتحدة — على هذا قائلًا: «لدى جميع شركات الأدوية مشروعًا ما في هذا المجال.»
لا تقتصر خواص الطعام التي تشبه خواص الهرمونات على الدهون فحسب، ففي وسع الأحماض الأمينية — وهي العناصر الأساسية المكونة للبروتينات — التأثير على مسارات الشهية كذلك. وقد أجرى سيلي بحثًا على بروتين يُدعَى إم تي أو آر الذي يعمل عادةً كمستشعر للأدينوسين ثلاثي الفوسفات «إيه تي بي» — وهو معروف بأنه عملة الطاقة الرئيسية في الخلية — ويزعم سيلي أن وظيفة هذا البروتين هي: مراقبة مستويات الطاقة والمواد المغذية، وتقليل استهلاك الطعام حال وجود فائض.
وقد وجد أن في وسع حمض الليوسين الأميني تنشيط بروتين إم تي أو آر بحيث يجعل الفئران يتناولون طعامًا أقل. وعليه، ربما تستطيع الأنظمة الغذائية الغنية بهذا المركب تقليل شهيتك، وهو ما يفترض أمرًا سهل التطبيق إلى حدٍّ كبير. يقول سيلي: «تحتوي معظم الأغذية مرتفعة البروتين؛ مثل: فول الصويا، والبيض، والفول السوداني، واللحوم، والأسماك على كميات وفيرة من حمض الليوسين، وقد أُجرِيت على القوارض اختبارات لأنظمة غذائية مرتفعة البروتين تُقلِّل الوزن.»
من الأحماض الأمينية الأخرى المثيرة للاهتمام حمض الجلوتامين الذي اكتشف ريمان أنه فعَّال لا سيما في تحفيز إطلاق هرمون كابح للشهية يُدعى ببتيد شبيه الجلوكاجون ١؛ مما يُعَدُّ سببًا آخر محتملًا لنجاح الأنظمة الغذائية مرتفعة البروتين.
كذلك تثبت الكربوهيدرات قدرتها على تعديل عملية التمثيل الغذائي بطرق مثيرة للاهتمام؛ إذ تتولى ميكروبات الأمعاء تحويل الكربوهيدرات المعقدة؛ مثل: النشا، والسليلوز إلى أحماض دهنية قصيرة السلسلة، والتي تتحد بعد ذلك بالمستقبلات على سطح الخلايا المتخصصة في الأمعاء، وتستجيب تلك الخلايا عبر إطلاق ببتيد شبيه الجلوكاجون ١.
جراحة التخسيس
لا يُعَدُّ ما سبق سوى جزء من النظام الطبيعي لاستشعار كم الطاقة الممتصة وتعديله، لكن بالنسبة لفروجيل قد لا يقتصر الأمر على ذلك؛ إذ يقول: «المجال التالي هو الكربوهيدرات.»
ربما يفسر التفاعل بين الطعام والنبيت المعوي المجهري والهرمونات والمستقبلات نجاحَ جراحة تحويل مجرى المعدة المستخدمة لعلاج بعض من يعانون من السمنة المفرطة. تشتمل الجراحة على تعديل مسار المعدة بحيث يسلك الطعام طريقًا مختصرًا من المعدة إلى الأمعاء الدقيقة. لكن تقليص حجم الجهاز الهضمي فحسب لا يُفسِّر تأثير الجراحة كما يذهب سيلي.
بل تُغيِّر الجراحة من طبيعة ميكروبات الأمعاء تغيرًا جذريًّا؛ مما يؤدي إلى زيادة في كمية ببتيد شبيه الجلوكاجون ١ — الكابح للشهية — التي يفرزها الجسم، كما يُعلِّق ريمان قائلًا: «تتغير الميكروبات، ويتغير كذلك نظام الهرمونات.»
يشير هذا إلى وجود طرق أقل جذرية لتحقيق نفس النتائج باستخدام جزيئات الطعام؛ إذ يضيف ريمان: «نحن نعمل لإيجاد وسائل لتعديل إفراز الهرمونات دون جراحة.»
تظل فكرة تحويل أساسيات علم الأحياء هذه إلى نظام غذائي صحي أملًا أكثر من كونها واقعًا، وهو ما يعلق عليه دونالد جَمب — عالم التغذية بجامعة أوريجون الحكومية في مدينة كورفاليس — قائلًا: «لا ينظر العامة عمومًا — ولا حتى اختصاصيُّو التغذية — إلى الطعام على أنه يحوي تلك الأنواع من الجزيئات المنظمة.»
لكن هذه الفكرة لا تزال في مراحلها الأولية، وقد يحمل لها المستقبل المزيد من الاكتشافات. يقول ريمان مصدقًا على ذلك: «قد تندمج تلك الحقائق مع نصائح الحمية الغذائية على المدى الطويل.» بل ويتوقع سيلي أن يرتكز إعداد الأنظمة الغذائية على أسس أكثر شخصية؛ أي يعتمد على استجابات الأفراد للجزيئات الشبيهة بالهرمونات في الطعام، فيقول: «إن «النظام الغذائي الصحيح» يختلف من فرد لآخر.»
لا يعني ذلك أن السعرات الحرارية لم تعد مهمة، لكن ربما أصبحت أقل أهمية عما كانت عليه في الماضي؛ وهو ما سأتناول الطعام احتفالًا به.
No comments:
Post a Comment