ما مضى فات والمؤمَّل غيب
ولك الساعةُ التي أنت فيها
كنت أعرف رجلًا من كبار المزارعين ممن يعملون بأنفسهم في مزارعهم؛ ولذلك نمت ثروته وازداد إيراده واستطاع أن يضيف إلى أراضيه أراضيَ جعلته محطَّ أنظار جيرانه وموضع احترامهم، على أنه اضطُر حين كان يشتري هذه الأراضيَ إلى رهْن جانب من ملكه للبنك ودفْع قسط سنوي للبنك لا يستهان به، وكان من عادته أن يبيع محصول قطنه قبل نهاية السنة حتى لا يتأخر في تسديد القسط للبنك والأموال الأميرية للحكومة، وحتى يواجه الطلبات المُلحة من غير أن يضيق بشيء من ذلك كله.
وتعاقبت السنين وجاءت ثورة سنة ١٩١٩، وباع الرجل قطنه كعادته السنوية أول الموسم في شهر أكتوبر، وسدد البنك والحكومة وواجه المطالب المختلفة، وكان مغتبطًا بالثمن الذي باع به؛ فقد كان ستة عشر جنيهًا، وهو ثمن لم يكن أحد في مصر يحلم به قبل تلك السنة، لكنه ما لبث حين انقضت الفترة الأولى بعد بيعه القطن أن رأى ثمن القطن يصعد ثم يصعد حتى يتجاوز الأربعين جنيهًا للقنطار، ثم ما لبث أن رأى من زملائه المزارعين مَن أخذ يتاجر في القطن ويربح أرباحًا ضخمة، عند ذلك حدثته نفسه: ما له لا يدخل البورصة ويلعب في الكونتراتات ليكون له مثل حظ زملائه، واشترى فعلًا بضعة آلاف من القناطير كونتراتات، وانتظر أيامًا ليصعد السوق فيبيعها فيربح فيها ويكون قد عوض الفرق بين الثمن الذي باع به والثمن الذي وصل القطن إليه.
لكن الحظ خانه، فبعد أيام بدأ سعر القطن في البورصة يتدهور بمثل السرعة التي ارتفع بها أول الموسم، وكان الرجل كلما انتظر طامعًا في أن يعود السوق إلى الصعود ازداد تدهورًا حتى اضطُر البنك المشتري إلى تصفية مركز المزارع الذي نتحدث عنه بعد أن دفع عشرات الألوف من الجنيهات فرقًا للثمن بين ما اشترى به وما قطع البنك عليه كنتراتاته.
وإزاء هذه الخسارة اضطرب الرجل أشد الاضطراب؛ فكنت لا تراه إلا ساهمًا واجمًا لا يكاد ينطق بكلمة. ولقيته يومًا فأشفقت عليه، وخفت على صحته، بل على حياته؛ لقد نقص وزنه نقصًا ظاهرًا، وقد شحب لونه، وقد أصبح ملبسه وهندامه وكل مظهره يدعو إلى الرثاء. ولم أملك أن قلت له: تعالَ يا أخي أحدثك، ما لك بلغ من حالك وأنا أعلم أنك ما تزال بخير ولله الحمد؟ قال: أيُّ خير يا صاحبي؟ إنه الخراب، الخراب المستعجل، إنني أتوقع إنذارًا من البنك لعدم دفع الاستحقاق القادم، وأتوقع طرح ملكي في المزاد، وأتوقع ما هو أدهى من ذلك وأمَرُّ، أتوقع الخراب، الخراب المستعجل قلت لك. وكاد الرجل يبكي فقلت له: بل تعالَ نتحاسب، افرض أن هذه الكوارث كلها نزلت بك، وأن البنك طرح أرضك في المزاد العلني فبِيع منها ما يكفي لسداد دينك، فهل يستغرق ذلك كل ما تملك؟ فوجم الرجل هنيهة ثم قال: كلا، إنه لا يستغرقه، ولكن مجرد تصوري لهذه الحال يكاد يقتلني. قلت: وما لك تستعجل تصور المصيبة قبل وقوعها؟ يجمل بك أن تنتظر لعل الله يهب لك فرجًا، وافترقنا.
وبقيت عدة سنين بعد ذلك لا ألقاه، على أنني علمت خلال هذه السنين أن البنك لم يتخذ ضده إجراءً تقديرًا لحسن معاملته في السنوات السابقة، ثم علمت أنه عاد يشتري أرضًا يضيفها إلى ملكه.
ولقيته بعد ذلك يومًا وهو في وحدته، فوقفت أتحدث إليه، وأخذ هو يحدثني بَاسم الثغر، ضاحك السن، حلو النظرة، طلق المحيا، عليه أمارات النعمة والسعادة، ولم تطاوعني نفسي أن أذكر له شيئًا عن الماضي القاسي الذي مر به، بل تركته ينعم بسعادته ويتحدث عنها ما شاء الحديث، وجعلت أجاريه في ذلك وكأن هذه السعادة سعادتي، وهذه النعمة نعمتي.
فلما خلوت بعد ذلك إلى نفسي ذكرت أيام بؤسه وسوء حاله ثم قلت: ما أكرمك يا رب! إنها نعمة النسيان هي التي أتاحت لهذا الرجل أن يكون سعيدًا وكان بالأمس شقيًّا. ونعمة النسيان هي التي تتيح لكثيرين ممن أوقفهم المرض على شفا الموت، ومن أوقفهم سوء الحظ على شفا الإفلاس، وكثيرين ممن أوقفتهم الحاجة على أبواب السجون؛ نعمة النسيان هذه هي التي تُسعد هؤلاء جميعًا وتجعلهم يغتبطون بالحياة وينعمون بما فيها من خير وبركة.
ترى لم لو يسعدنا الله بهذه النعمة، فما عسى تكون الحياة؟ وإذا نحن تذكرنا كل يوم ما أصابنا وأصاب أحبتنا من مِحن، فهل نستطيع مع ذلك أن نسمو على ما في الحياة من صعاب ومشقات؟ ألا إننا عند ذلك لنكوننَّ أشقياء بالحياة فنتمنى أن نتخلص منها.
سقت ما سبق من القول حديثًا عن نعمة النسيان للكوارث والملمات، على أن النسيان نعمة في غير هذه إن لم يكن لها مثل خطرها فلها مع ذلك خطر وأهمية.
كنا طلابًا بالحقوق، وكان بعضنا يكتب في الصحف، وكنت من بينهم، وكانت الجريدة التي أكتب فيها هي (الجريدة) التي يدير تحريرها أستاذنا لطفي باشا السيد؛ وكنت لذلك أتردد مع بعض الأصدقاء عليه، نستمع إلى نصائحه وحِكمه وطريقة تفكيره في الموضوعات المختلفة. ولقد قال لنا غير مرة على سبيل النصيحة: اقرءوا كثيرًا، واحفظوا ما تختارون مما تقرءون، ثم انسوا ما حفظتم، ذلك أجدى عليكم في معارفكم اللغوية وفي أسلوبكم الكتابي. وقد أخذت عنه هذه النصيحة واعتبرتها بعض ما آخذ به نفسي في حياتي المستقبلة، ولا أزال أذكرها إلى اليوم وإن لم أكن في حاجة إلى العمل بها؛ لأن الذاكرة لم تعد تستوعب جديدًا.
والنسيان كذلك نعمة تقابَل بها الإساءة، فلو أننا ذكرنا كل إساءة تصيبنا من صديق أو من خصم أو ممن لا نعرف لضاقت بنا الحياة، لكنا نتغلب على هذه المساءات بنسيانها، وكثيرًا ما يؤدي هذا النسيان إلى أسف أصحابها عليها وإلى اعتذارهم لنا عنها.
هذا بعض ما للنسيان من فضل ونعمة، لكنه لا يقاس إلى نعمته الكبرى حين يهوِّن على الناس مصائبهم ومتاعبهم. أرأيت لو أن الآباء والأمهات ظلوا يذكرون من فقدوا من أبنائهم وبناتهم ولم يملس النسيان بيده المحسنة على كلوم قلوبهم، أفكان هؤلاء الآباء والأمهات يقوون على الحياة.
وذلك فضل الله على عباده، والله ذو الفضل العظيم.
No comments:
Post a Comment