Friday, February 14, 2014

طه حسين : ثورتنا هنا … وفي كل مكان - جريدة الجمهورية ٢٣ يوليو ١٩٦٠



هذا هو العيد الذي نحتفل فيه بالثورة التي شبَّت في الثالث والعشرين من شهر يوليو، وما زالت قائمة ماضية في تحقيق الأغراض السياسية والاجتماعية التي شبَّت من أجلها.
أهو عيد الجمهورية العربية المتحدة وحدها، أم هو عيد لأمم أخرى كثيرة غيرها؟ أهو عيد نحتفل به نحن وتجاملنا فيه بعض الأمم فترسل وفودها لتشهد معنا الاحتفال به، حتى إذا انقضى عادت الوفود إلى أوطانها وقد أدَّت واجب المجاملة لوطن صديق؟ أو هو عيد تشترك فيه هذه الوفود أو أكثر؛ لأن آثار الثورة التي نحتفل بها فيه ليست مقصورة على هذين القطرين اللذين تتألف منهما هذه الجمهورية العربية المتحدة، بل تتجاوزهما إلى أقطار أخرى كثيرة في القارة الأفريقية وفي القارة الآسيوية نفسها أيضًا؟
أما أنا فأعتقد أنه عيد يشمل أممًا كثيرة في القارتين؛ لأن ثورتنا كانت مقدِّمة لاستقلال شعوب مختلفة كانت خاضعة لسلطان الاستعمار الخارجي، ولسلطان الاستبداد الداخلي أحيانًا. ولست أحب التنبُّؤ بما يكون في المستقبل، ولكني مع ذلك قد تنبَّأت حين شبَّت ثورتنا بأنها ستُحدث في الشرق مثل ما أحدثته الثورة الفرنسية الكبرى في الغرب. ولعلِّي حين كتبت هذا الكلام في الأهرام كنت أمليه مدفوعًا بالأمل العريض الذي أثارته الثورة في نفسي، وبالحب العميق لهذه الحرية التي لم أكن أحبها لوطني وحده، وإنما كنت أحبُّها وأتمنَّاها لأوطان كثيرة أخرى كانت قد حرمتها منذ عهود بعيدة جدًّا.
وأعترف بأني لا أقرأ في هذه الأيام نبأً من هذه الأنباء التي تُذاع في أقطار الأرض معلنةً تحرر الشعوب من الاستعمار والاستبداد والظلم، إلا ذكرت ثورتنا وتحدثت إلى نفسي بأن تحرر هذه الشعوب واستقلالها واستمتاعها بالحرية والكرامة والعزة، كل ذلك إنما هو أثر من آثار ثورتنا هذه؛ فقد كنت موقنًا حين كتبت ما كتبت في الأهرام أن لنا جيرانًا في آسيا وفي القارة الأفريقية، وأن أنباء ثورتنا ستصل هؤلاء الجيران، وأنهم سيعلمون كثيرًا من نتائجها، وسيفرحون لنا، وسيغبطوننا، وسيتمنَّون لأنفسهم مثل ما أُتيح لنا من الثورة أو شيئًا قريبًا مما أُتيح لنا …
كنت أذكر تونس والغرب الأقصى، وكنت أذكر العراق، وكنت أذكر المستعمرات الفرنسية في القارة الأفريقية. وكنت أُقدِّر أن إخراج الملك المستبد من مصر، وأن الإصلاح الاجتماعي الذي بُدئ به في مصر، وأن جلاء الجنود البريطانيين عن أرض مصر الذي ستجدُّ فيه الثورة حتى نبلغه؛ كنت أذكر أن هذا كله سيقع من قلوب جيراننا القريبين منا والبعيدين عنا مواقع الماء من ذي الغلة الصَّادي … كما كان القدماء يقولون. ثم لم ألبث أن رأيت الثورة تشبُّ في غير موطن من هذه المواطن، من هذه المواطن القريبة والبعيدة. ولم ألبث أن رأيت بعضها يبلغ ما كان يريد بعد جهاد العنف حينًا ولا يبلغ العنف حينًا آخر.
فهذه الأوطان في شمال أفريقيا تجاهد أعنف الجهاد وأقساه، وتصلَى نار العدوان والطغيان والإثم، وتنتهي إلى أن تبلغ الغاية التي أرادت أن تبلغها، فتستقل تونس، ويستقل المغرب الأقصى بعد خطوب، وتوشك الجزائر أن تبلغ ما تريد من الاستقلال، على رغم ما تُمعن فيه فرنسا من المداورة والمناورة، وعلى رغم ما تُمعن فيه فرنسا أيضًا من ألوان الظلم والبغي ومن ضروب القمع وتعذيب الأبرياء.
وها نحن أولاء نرى في هذه الأيام تتابُع الأنباء التي تحدثنا باستقلال المستعمرات الفرنسية، بعد أن ورَّطت فرنسا نفسها في تلك الشركة التي زعمت أنها ستنشئها بينها وبين مستعمراتها؛ فتتقي بذلك الثورة في تلك المستعمرات، تعطيها القليل وتستأثر من دونها بالكثير، تُخيل إليها أنها حرة في حياتها الداخلية وأن حياتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية شركة بينها وبين فرنسا. ولقد غلا رئيس الجمهورية الفرنسية في يوم من الأيام فأعلن إلى هذه المستعمرات أنها حرة في أن تقبل هذه الشركة، فتشرف بالتعاون في فرنسا الكبرى أو ترفض هذه الشركة فتشقى باستقلالها؛ لأنها لا تملك الوسائل التي تتيح لها حماية هذا الاستقلال. أعلن ذلك رئيس الجمهورية الفرنسية مطمئنًّا إلى أن المستعمرات ستحرص أشد الحرص على أن تقبل الشركة وتعيش مستقلة استقلالًا داخليًّا، وتشرف بالمشاركة فيما عدا ذلك من الشئون. ولكن بعض هذه المستعمرات آثرت الاستقلال فورًا، فاضطرت فرنسا إلى أن تعترف لها بهذا الاستقلال، وقبلت كثرة المستعمرات هذه الشركة أولًا، ثم لم تلبث إلا عامًا وبعض عام حتى طلبت استقلالها كاملًا موفورًا.
وبعضها الآخر طلب هذا الاستقلال، واحتفظ لنفسه بالحرية الكاملة، بعد أن يتم له استقلاله في أن يُحالف فرنسا أو يحالف غيرها من الدول. ونظرت فرنسا ذات يوم فإذا مستعمَرَاتها في القارة الأفريقية تطلب الاستقلال جميعًا، وتطلب العضوية في هيئة الأمم المتحدة. ونظرت فرنسا ذات يوم فإذا هي لا تستطيع أن ترفض لهذه المستعمرات طلبًا؛ لأن رئيس الجمهورية لم يكتف بإعلان ما أعلن من حق المستعمرات في أن تنفصل عن فرنسا أو تشترك معها، وإنما سجل ذلك في الدستور الفرنسي، فلم يبقَ لفرنسا وسيلة تتيح لها رفض ما تطلبه هذه المستعمرات من الاستقلال التام مع الحلف أو دون الحلف، ولن يأتي الخريف المقبل إلا وقد تم استقلال المستعمرات الفرنسية كلها في القارة الأفريقية، لا يُستثنى من ذلك إلا الجزائر؛ لأن الفرنسيين يرون — وما أسخف ما يرون! — أن الجزائر ليست مستعمرة، وإنما هي جزء من الوطن الفرنسي. ومع ذلك فقد اضطرت فرنسا إلى أن تُعلن — على لسان رئيس الجمهورية — أن للجزائر الحق الكامل في تقرير مصيرها، والثورة في الجزائر هي التي اضطرت فرنسا إلى ذلك، وأرغمتها عليه إرغامًا. وحسبك أن تلاحظ أن الجيش الفرنسي — على قوته وبأسه واستعانته بما يمده به حلفاء فرنسا — قد أنفق ست سنوات دون أن يسحق هذه الثورة أو يفلَّ حدها.
ثم لم تكتفِ فرنسا بما أعلن رئيس جمهوريتها من حق الجزائر في تقرير مصيرها؛ وإنما دعت زعماء الثورة إلى المفاوضة، وبدأت هذه المفاوضات بالفعل، وهي الآن تتعثر. ولكن الأمر منتهٍ من غير شك إلى استقلال الجزائر سلمًا أو حربًا، وكذلك تفقد فرنسا كل مستعمراتها في هذه القارة الأفريقية، ويضطر كاتب فرنسي إلى أن يسجل في إحدى الصحف الفرنسية الكبرى أن رئيس الجمهورية القائم قد نهض بالرياسة ليقضي على الإمبراطورية، ويرد فرنسا دولة من الطبقة الثانية. ولا يقف الأمر عند فرنسا وحدها، فبريطانيا نفسها تتخلى عن بعض مستعمراتها في هذه القارة الأفريقية طوعًا أو كرهًا، وبلجيكا تعلن استقلال الكونجو البلجيكي بعد خطوب شداد. وللكونجو البلجيكي قصة لم تنته بعد، يظهر القراء على أنبائها في الصحف كل يوم، ولكنه قد أصبح على كل حالة دولة مستقلة، وسيصبح عضوًا في هيئة الأمم المتحدة في شهر سبتمبر المقبل، بعد أن أوصى مجلس الأمن بقبوله.
وكذلك تتغيَّر الصورة الجغرافية لهذه القارة، ويتعلَّم طلاب المدارس الثانوية شيئًا جديدًا في جغرافيا القارة الأفريقية … يتعلم هؤلاء الطلاب شيئًا لم يتعلمه إخوانهم الذين سبقوهم في هذا العام، وهو أن القارة الأفريقية قد تحرر أكثرها ونشأت فيها دول لم تكن موجودة أثناء هذه السنة الدراسية، وستكون موجودة عاملة في الحياة الإنسانية أثناء العام الدراسي المقبل.
وحين نحتفل بعيد الثورة في هذا العام، سنضطر إلى أن نذكر أن ثورتنا كانت مقدمة لهذه الحرية التي أوشكت أن تظلل القارة الأفريقية كلها.
والأمر ليس مقصورًا على هذا الذي كان في القارة الأفريقية، ولكن هناك أوطانًا أخرى في آسيا قد تأثَّرت بهذه الثورة، سواء اعترفت بهذا التأثر أم لم تعترف، فثورة العراق أثر من آثار الثورة المصرية، وإن كره الزعيم الأوحد والقاضي الفذ. ويُخيل إليَّ أن هناك شبهًا ما بين ثورة الجيش المصري منذ أعوام وثورة الجيش التركي في هذه الأيام، وما أشك في أن الترك يكرهون أشد الكره الاعتراف بأن لثورتنا في ثورتهم أثرًا، ولكن الشيء المحقق هو أن هذا التشابه قائم، سواء كرهه الترك أو أحبوه.
ومن يدري، أتقف آثار ثورتنا في العالم الخارجي عند هذا الحد، أم تمضي في تأثيرها حتى لا يصبح في الأرض أثر من آثار الاستعمار كما عرفه الناس من أعوام؟ ولست أزعم أن الاستعمار قد انقضى بجميع صوره وأشكاله، فالناس جميعًا يعلمون أن التحالف مع الدول الكبرى لون من ألوان الاستعمار وشكل من أشكاله. ولكن أول الغيث قطرة ثم ينهمر، فمن حق كل مواطن في الجمهورية العربية المتحدة أن يشعر بشيء من الرضا العميق الذي يستأثر بالقلب والضمير، حين يذكر أن ثورة وطنه لم تكن مقصورة عليه، وإنما كانت مقدمة لزوال شكل بغيض من أشكال الاستعمار عن أوطان قريبة وبعيدة، ولم تكن مصر في يوم من الأيام أثرة ولا منطوية على نفسها، وإنما كان هذان القطران دائمًا مؤثرين للخير، يحبانه لأهلهما ويُشِيعانه في الأوطان الأخرى ما وجدا إلى إشاعته سبيلًا، وهما الآن يؤديان واجبهما التاريخي حين يؤثران الخير ويشيعانه في الأوطان الأخرى.
وإذا كان خير الناس أنفعهم للناس، فخير الأوطان أنفعها للأوطان الأخرى.

No comments:

Post a Comment