Monday, February 17, 2014

نيكولاس كار : التنبؤ بنهاية الطباعة


من مقال أوكتاف يوزان «نهاية الكتب» الذي نُشِر في مجلة «سكريبنر» في عام ١٨٩٤:
ما هو رأيي في مصير الكتب يا أصدقائي الأعزاء؟ إنه لسؤال مثير للاهتمام، وما يحمسني أكثر هو أنني بصدق لم أطرحه على نفسي قطُّ قبل هذه الساعة.
القراءة على متن قطار «ليميتد».
القراءة على متن قطار «ليميتد».
إذا كان يُفهَم بالكتب إشارتك إلى مجموعاتنا التي لا حصر لها من الأوراق، المطبوعة والمخاطة والمجمَّعة كلها داخل غلاف يعلن عن عنوان العمل، فأنا أعترف لك صراحةً أنني لا أعتقد (ويمنعني التقدُّمُ في الكهرباء والميكنة الحديثة من الاعتقاد) أن اختراع جوتنبرج يمكن أن يكون مصيره أي شيء إلا التعرُّض آجلًا أو عاجلًا لبطلان الاستعمال بوصفة وسيلة للترجمة الحالية لبنات أفكارنا.
فالطباعة، التي أطلق عليها ريفارول بحكمة مدفعية الفكر، والتي قال عنها لوثر إنها آخِر وأفضل هدية يرفع بها الله من شأن ما جاء في الإنجيل؛ الطباعة التي غيَّرتْ مصيرَ أوروبا وتحكَّمَتْ — خاصةً على مدار القرنين الماضيين — في الرأي من خلال الكتاب والنشرة والصحيفة؛ الطباعة التي سيطرت باستبداد منذ عام ١٤٣٦ على عقل الإنسان، هي في رأيي مهدَّدة بالموت من الأجهزة المختلفة لتسجيل الصوت التي اختُرِعت مؤخرًا، والتي ستتحول شيئًا فشيئًا إلى الكمال.
فرغم التقدم الهائل الذي حدث تدريجيًّا في آلات الطباعة، وعلى الرغم من آلات التنضيد الموجودة بالفعل، والتي تتميز بسهولة الاستخدام، وتوفير الحروف الجديدة المقولبة في مصفوفات متحركة، فإنه لا يزال يبدو لي أن الفن الذي برع فيه فوست وشيفر وإيتيان وفاسكوزا وألدو مانوتسيو ونيكولا جونسون على التوالي، قد وصل إلى ذروة كماله، وأن أحفادنا لن يأتمنوا هذه العملية عتيقة الطراز إلى حدٍّ ما على أعمالهم بعد الآن، حيث أصبح حاليًّا من السهل للغاية أن يُستبدَل بها عملية تسجيل واستعادة الصوت، هذه العملية التي نأمل منها الكثير، رغم أنها لا تزال في مرحلتها الأولى.
ومن ثَمَّ، فرأيي في هذه الحقيقة التي لا جدال فيها، أن الرجل المترف يصبح كل يوم أكثر عزوفًا عن التعرض للتعب، حتى إنه يسعى بشغف إلى ما يُطلَق عليه الأشياء المريحة؛ بمعنى أية وسيلة تعفيه من إرهاق أعضاء جسمه. ستتفق حتمًا معي أن القراءة، على النحو الذي نمارسها به حاليًّا، سرعان ما تسبِّب إرهاقًا شديدًا؛ حيث إنها لا تتطلب فحسب من العقل انتباهًا مستمرًّا يستهلك مقدارًا كبيرًا من الفوسفات الدماغي، لكنها أيضًا تجبر أجسامنا على أوضاع مرهقة عديدة؛ فإذا كنا نقرأ إحدى صحفنا الكبرى فإنها تجبرنا على اكتساب مهارة معينة في فن قلب الصفحات وطيها، فإذا أمسكنا بالصحيفة مفتوحة على مصراعيها، لن يمر وقت طويل حتى تتعرض العضلات المستخدمة في هذه الحركة إلى الإرهاق، وفي النهاية إذا تحوَّلْنا إلى قراءة كتاب فإن الحاجة إلى الانتهاء من الصفحات وقلب الواحدة تلو الأخرى ينتج عنه في النهاية حالة من الإنهاك تكون مؤلمة للغاية على المدى الطويل.
أما فن التأثر بذكاء الآخرين ومرحهم وفكرهم فيتطلب سريعًا مهارات أكبر. لهذا أؤمن بنجاح كل شيء يؤيد كسل الإنسان وأنانيته ويشجعهما؛ فكما قضى المصعد على عملية صعود الدرج المتعبة، فإن عملية تسجيل الصوت واستعادته ربما ستعمل على تدمير الطباعة. إن أعيننا قد خُلِقت لترى وتعكس مظاهر جمال الطبيعة، لا لترهق نفسها في قراءة النصوص، لقد أُسِيءَ استخدامها لفترة طويلة، وأنا أحب أن أتخيَّل أن أحدًا ما سيكتشف قريبًا الحاجة إلى إراحتها من خلال وَضْع حملٍ أكبر على آذاننا؛ سيكون هذا بمثابة إرساء تعويض منصف في ترشيدنا البدني العام.
أما فيما يتعلق بالكتاب، أو لنقل فيما يتعلق بالوقت «الذي ستبقى فيه» الرواية أو القصة المسجلة، فإن المؤلف سيصبح الناشر لنفسه. ولتجنب المحاكاة والتزييف سيُرغم المؤلف على الذهاب أولًا إلى مكتب براءات الاختراع، ليودع فيه صوته ويسجل أعلى نغمة فيه وأكثرها انخفاضًا، ويقدِّم كل الأدلة السمعية المضادة من أجل التعرُّف على أية محاكاة لوديعته. ستحقِّق الحكومة أرباحًا ضخمة من براءات الاختراع هذه. وبعد أن جعل المؤلف عمله قانونيًّا، عليه أن يبدأ تسجيل أعماله صوتيًّا، مثبتًا إياها على أسطوانات تسجيل، وسيقوم هو بنفسه بعرض هذه الأسطوانات المحمية ببراءة الاختراع للبيع، وستُوزَّع في عبوات من أجل استهلاك المستمعين.
سيشعر هؤلاء المستمعون المحظوظون في المنزل أو في أثناء المشي ومشاهدة المعالم السياحية بمتعة لا تُوصَف من التوفيق بين النظافة والتعليمات، ومن تغذية عقولهم وهم يحركون عضلاتهم، حيث ستتوافر أجهزة فونوجراف للجيب، لتُستخدَم في أثناء التنزه بين جبال الألب أو في أودية كولورادو … لن ينقصهم شيء ليغذوا به عقولهم، فبإمكانهم الحصول على لذة من الأدب تمامًا كلذتهم من الماء الصافي، وبثمن زهيد أيضًا، حيث ستتوافر ينابيع من الأدب في الشوارع كما توجد حاليًّا صنابير مياه.
ستُشيَّد في كل مكان مفتوح في المدينة مبانٍ صغيرة بها أنابيب استماع متطابقة لأعمال معينة، معلَّقة في كل مكان ليستفيد منها المارة المولعون بالدراسة. ستعمل هذه الأنابيب بسهولة بمجرد الضغط على زر. وعلى الجانب الآخر، يوجد نوع من التاجر الآلي للكتب، الذي يعمل عن طريق وضع خمسة سنتات في الفتحة المخصَّصة، وسيقدِّم مقابل هذا المبلغ المالي البسيط أعمال ديكنز أو دوما الأب أو لونجفلو على لفافات طويلة جاهزة كلها للاستهلاك المنزلي.
بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا إلى القول بأن المؤلف الذي يرغب في أن يقدِّم شخصيًّا أعماله للمعرفة العامة — على غرار الشعراء الغنائيين من العصور الوسطى — حاملًا إياها من منزل إلى منزل، ربما يحقِّق ربحًا متواضعًا لكنه مستمر من خلال تأجيره نوعًا من الأرغن المحمول لكل النزلاء في الوحدة السكنية نفسها، الذي يمكن تعليقه على الكتف، يتكون من عدد لا حصر له من الأنابيب الصغيرة المتصلة بمتجره المختص بالمواد السمعية، يمكن عن طريقها إرسال أعماله عبر النوافذ المفتوحة إلى آذان هؤلاء النزلاء الذين يرغبون في الحصول على لحظة من الترفيه، أو يبتهجون في ساعة من العُزْلة. عليك الاعتراف بأن أصحاب الإمكانيات البسيطة لن يتعرضوا للإفلاس بسبب ضريبة مقدارها أربعة أو خمسة سنتات مقابل «جلسة استماع» لمدة ساعة، وأن أجر المؤلف المتجول ستكون له أهمية نسبية من خلال العدد الوفير لجلسات الاستماع المتوافرة لكل منزل في الحي السكني نفسه.
هل هذا كل شيء؟ على الإطلاق؛ فإن عملية تسجيل الصوت واستعادته ستصبح مستقبلًا في خدمة أحفادنا في جميع مناسبات الحياة؛ فكل طاولة في مطعم ستصبح مزوَّدة بمجموعتها الصوتية، وكل عربات النقل العام، وغرف الانتظار وغرف الماكينات البخارية التابعة للدولة، وردهات وحجرات الفنادق ستحتوي كلها على أجهزة فونوغراف لاستخدام المسافرين. وستستبدل السكك الحديدية بعربة القطار الفاخرة نوعًا من مكتبات الإعارة المتجولة في عربة بولمان داخل القطار، مما سيجعل المسافرين ينسون ملل الطريق بينما يدعون أعينهم تستمتع بحرية بالمناظر الطبيعية التي يمرون عليها.
لن أدخل في التفاصيل الفنية لطرق تشغيل هذه الأشكال الجديدة لترجمة الفكر البشري؛ هذه الأدوات التي ستُستخدَم لتعيد ترديد الكلام البشري، لكن الأكيد أن كل سكان هذا العالم سينبذون الكتب، وستصبح الطباعة بالتأكيد عديمة الاستخدام عدا في الخدمة التي ستظل تقدِّمها في مجالي التجارة والعلاقات الخاصة، وحتى في هذا الوقت ستفي الآلة الكاتبة — التي ستكون حينها قد اكتمل تطورها — بكل الاحتياجات.
The End of Print Foretold by Nicholas Carr. Rough Type. August 9, 2013.

No comments:

Post a Comment