Thursday, February 27, 2014

أحمد خالد توفيق : عن MMR و النصب و أشياء أخرى




أحمد خالد توفيق: عن الـ MMR والنصب وأشياء أخرى
مجلة الشباب |مارس 2013

لا كرامة لنبي في وطنه .. هي مقولة شائعة وصادقة بالتأكيد..
لا كرامة لنبي في وطنه .. موافق تمامًا. المشكلة الحقيقية هي أن النصابين يعرفون هذه المقولة جيدًا ويلعبون عليها بحكمة لاعتصار عواطف الناس. وهكذا يمكننا – دون خطأ كبير – أن نقول إن النبي الكذاب ينال أعظم المجد في وطنه، ولا يستطيع أحد مناقشته.

بما أنني أمارس مهنة الطب فقد عرفت عددًا هائلاً من هؤلاء العلماء النصابين ، الذين يمارسون كافة طقوس العلم الزائف بنجاح تام. ومن علامات العلم الزائف الشهيرة أن الطبيب النصاب لا يلجأ في عرض نتائجه العلمية إلى زملاء المهنة، بل يلجأ إلى الصحافة، وبما أن الصحافة غير متخصصة فهي تقبل ما يقوله وتنفعل. يمضي الرجل وعلى وجهه علامات المرارة مرددًا في كل مكان:

ـ"للأسف لدينا العلم كله لكن لا كرامة لنبي في وطنه .. نحن نقبل ما يقوله الأجنبي بينما نعامل علماء وطننا العباقرة أسوأ معاملة"

هكذا تسيل الدموع وينفعل الجميع .. ويبصقون في وجوهنا – نحن الذين جرؤنا على التدقيق العلمي في اكتشاف هذا العالم - باعتبارنا مجموعة من الفاشلين الذين لا يهمهم سوى تدمير الناجحين. قال لنا مدير شركة دواء شهيرة إن شعار المصريين هو PHD ومعناها في مصر ليس (الدكتوراه في الفلسفة) بل (ادفعوه لأسفل Push him down (. ربما كان هذا صحيحًا لكن النتيجة هي أن أي اكتشاف وهمي يمر في مصر ويجد من يدافع عنه في شراسة.

أذكر أن الأستاذ أحمد رجب الساخر الجميل كتب سلسلة مقالات يهاجم فيها الجهل المخيم على العقل العربي .. لقد زاره طبيب يؤكد أنه صاحب نظرية المناعة العربية - يعلم الله ما هي- وأقنعه أنه لا يوجد شيء اسمه الالتهاب الكبدي ج .. هذه خرافة اخترعتها الشركات المنتجة للانترفيرون لتجمع المليارات. انفعل الأديب الكبير وكتب عدة مقالات بؤيد فيها هذا الطبيب .. بالطبع لا يملك أحمد رجب أدوات القياس لخبر كهذا فهو غير متخصص طبيًا. أنا مثلاً لو قرأت خبرًا عن (اختراع ياباني لتحويل الضوء المستقطب إلى فلزات أيونية متناظرة يمكنها تشغيل السايكلوترونات بكفاءة) لصدقت الأمر بسهولة تامة.
في الثمانينيات كان هناك أستاذ جراحة شهير مولع بالشهرة. قال هذا الأستاذ إنه ذهب للكونغو وتوصل خلال شهرين إلى علاج الإيدز وأطلق عليه MM1. سبب هذا الاسم الغريب هو تملق طاغيتين هما مبارك وموبوتو حاكم الكونغو. ماشاء الله !... اكتشاف علاج الإيدز في ستين يومًا .. !.. من قال إننا لا نملك عباقرة ؟. بعدها أعلن أنه اكتشف علاج الروماتويد عن طريق حقن يعطيها في عيادته.جميل جدًا .. نريد معرفة تركيب هذه الحقن أو علاج الإيدز.

لكنه رفض بشدة لأنه يخشى مافيا الدواء ويخشى سرقة أفكاره. هكذا ثار المجتمع من أجل هذا العالم الجليل الذي سيرفع اسم مصر في المحافل الدولية، ولما حاولت جامعة القاهرة أن توقفه حفاظًا على مكانتها العلمية، خرجت كتيبة من الصحفيين في كل مكان تلعن أبا الجهل، وتلعن معاملتنا القاسية للعلماء بسبب الحقد، وترددت العبارة الكريهة (حزب أعداء النجاح).. وكان هناك أكثر من كاريكاتور رسمه مصطفى حسين في جريدة الأخبار للطبيب وقد حبسه رئيس الجامعة في غرفة الفئران ..

كان هذا الكلام في الثمانينيات .. وعندما عقد الرجل مؤتمرًا صحفيًا فقد خاطب الصحفيين ولم يخاطب الأطباء كما هي عادة العلم الزائف. وتجرأ العظيم يوسف إدريس على فضحه في مقال قوي جدًا، لكن الطبيب الشهير فضل الصمت لأنه يعرف أن حيلة (لا كرامة لنبي في وطنه) لا تفشل أبدًا .. فضل الصمت وترك القراء يردون ويتهمون يوسف إدريس بأنه عدو النجاح.
واليوم مر ثلاثون عامًا على هذه القصة .. السؤال هو: أين هذا العلاج العبقري لداء الإيدز؟.. العلاج الذي أقنع الناس بوجوده لدرجة أن فتى يعتقد أنه جيمس بوند هاجم الفيلا،وقيد الطبيب وزوجته والخادمة وهددهم بالقتل إن لم يسلموه أوراق بحوث الإيدز !

على كل حال وصل الطبيب للعالمية فعلاً، فقد خصصت مجلة فرنسية عددًا خاصًا عن النصابين أدعياء العلم .. فكان هو أول اسم في القائمة !..كتب الأستاذ إبراهيم سعدة مقالاً كاملاً عن هذا، وهكذا دخل اسم مصر المحافل الدولية بسهولة !

تاريخ الطب في مصر مزدحم بأمثال هذا الرجل . ونحن نعرف هوجة العلاج بالإنزيمات وهوجة الأعشاب الطبية التي تشفي الالتهاب الكبدي ج ..وهوجة الحجامة من غير أساس علمي.. وهناك حشد من الأدوية التي لا قيمة لها، لكن مبتكريها يعرفون كيف يفوزون برضا الصحافة .. والصحافة تكتب عن العبقري المظلوم الذي ضاع حقه في بلد الجهل هذا .. فإذا رفضت وزارة الصحة أبحاثه فلأنهم بالتأكيد قد تقاضوا مبالغ طائلة من شركات الأدوية .. الخ ..

ننتقل الآن إلى العالم الخارجي لنرى واحدة من أشهر حالات اضطراب الرؤية في تاريخ الطب .. السبب هو طبيب آخر عرف العالم مؤخرًا أنه نصاب،وهو بريطاني وسيم أنيق يدعى (أندرو ويكفيلد).
أنت تعرف أن الأطفال يأخذون لقاحًا ثلاثيًا مهمًا للوقاية من التهاب الغدة النكفية ومن الحصبة ومن الحصبة الألمانية .. يطلقون عليه MMR.
في العام 1998 ظهرت دراسة في مجلة بريطانية محترمة هي (لانسيت). تزعم هذه الدراسة أن هذا اللقاح يسبب داء التوحد Autism الرهيب. زعم ويكفيلد أنه لاحظ الأطفال الذين تلقوا لقاحMMR وكيف ظهرت عندهم أعراض داء التوحد بعد 14 شهرًا، مع مرض غريب وصفه لأول مرة وأطلق عليه التهاب القولون المتوحد. وقد اقترح أن السبب هو اللقاح الثلاثي ورأى أنه ربما كان من الأنسب أن يتم إعطاء كل لقاح على حده.

مجلة لانسيت مجلة محترمة لها قوانين صارمة للنشر، وأنا شخصيًا ممن يعتبرون كل حرف ينشر فيها حقيقة لا تقبل الجدل. لاحظ أن هذا الرجل جريء ولا يتصرف كالنصابين .. لم ينشر في جريدة شعبية أولاً، وإنما دخل معقل الأسد: مجلة (لانسيت) شخصيًا حيث يربض العلماء المستعدون لالتهامه.

من وقت لآخر تثار أسئلة كثيرة حول اللقاحات، خاصة تلك المادة التي تضاف للقاح لزيادة مساحة سطح المادة المستضدة وفعالية اللقاح. المادةتدعى Adjuvant . مثلاً في فوضى انفلونزا الخنازير، صار من المعتاد أن تفتح صندوق بريدك لتجد تحذيرًا من وزيرة الصحة الفنلندية – وهي ليست وزيرة صحة فنلندية - أو من امرأة تدعى سارة ستون .. كان الخوف يتركزعلى مادة السكوالين التي اتهموها بكل شيء تقريبًا، والأهم أنهم قالوا إن ضررها لنيظهر قبل عشرة أعوام (هكذا تظل قلقًا للأبد).

عامة هناك دومًا حملة من الرفض المجنون للقاحات الإجبارية عند الأجانب غير الأطباء ، باعتبارها تقحم أشياء صناعية على الجهازالمناعي، وتعتدي على حريتك في الاختيار . يقولون إن الأمراض التي يتلقى الطفل اللقاح ضدها صارت نادرة أصلاً، وهو تفكير شديد الغباء .. لقد صارت نادرة بسبب اللقاح طبعًا يا حمقى، ويكفي أن يتوقف الناس عن استعمال لقاح شلل الأطفال لبضعة أعوام ويروا النتيجة !

نعود لبحث الأخ ويكفيلد. فيالعام 2001 بدأ يزداد حماسًا، فزعم أنه وجد أجزاء من فيروس الحصبة في أنسجة الأطفال المصابين بالتوحد .. نشر أوراقًا علمية أخرى واتهم مادة الثمروز الموجودة في اللقاح بأنها المتهمة. وهكذا بدأت الصحافة تكتب بحماس عن اللقاح، وقلت ثقة المريض الإنجليزي به ..

كانت النتيجة هي أن كل أولياء الأمور أصيبوا بالذعر ..أولاً كل الآباء الذين لديهم أطفال مصابون بالتوحد طالبوا بتعويضات من الشركات المنتجة للقاح .. ثانيًا أحجم آباء كثيرون عن إعطاء لقاح لأطفالهم .. والنتيجة هي أنك تترك طفلك بلا حماية أمام ثلاثة أوبئة مرعبة؛ هي أبو كعب (التهاب الغدةالنكفية) والحصبة والحصبة الألمانية. والحقيقة أن معدلات الإصابة بهذه الأوبئةارتفع جدًا في إنجلترا وإيرلندا.

الصحافة ووسائل الإعلام تلعب دورها المشئوم الدائم، وهو أنها أعطت أبحاث ويكفيلد أهمية أكثر مما تستحق. هكذا قل عدد من يعطون اللقاح لأطفالهم. لاحظ الأطباء فيما بعد أن الحصبة زادت لكن التوحد لم يقل بتاتًا.. برغم انخفاض استعمال اللقاح.

هنا نضع خطًا مهمًا .. اللقاح قد يسبب التهابًا في المخ .. هذا صحيح .. لكن نسبة الالتهاب واحد في المليون. أما الحصبة فتسبب التهابًا بنسبة واحد في الألف !..حسبة بسيطة جدًا ..
في العام 2006 انخفض استعمال اللقاح في إنجلترا إلى 60% وهو رقم مخيف لا يكفي لمنع الأوبئة. تأمل ما يعمله العلم الزائف .. قبل صدور المقال كانت حالات الحصبة فيانجلترا 56 حالة .. بعد المقال صارت حالات الحصبة 450 حالة !... وللمرة الأولى منذعام 1992 يموت طفل بالحصبة .. أما عن داء أبي كعب فقد اكتشفت بريطانيا أنها تواجه وباء حقيقيًا منه عام 2005 .. وللمرة الأولى كذلك يعلن أن الحصبة صارت مرضًا متوطنًا في بريطانيا بعد عشرة أعوام من عدم إعطاء اللقاح. يخيل لي أنهم لو أعدموا هذا الويكفيلد لكان هذا عادلاً.

لقد أثبتت التحقيقات التي أجراها طبيب اسمه برايان دير، مولته جريدة صنداي تايمز، أن البحث ملفق وأن الرجل نصاب .. تلاعب بالأرقام والتواريخ وكلام الآباء ليناسب غرضه. ثم تبين أنه عرض أطفالاً يعانون تخلفًا عقليًا إلى إجراءات بحثية عنيفة لم يوافقوا عليها؛ مثل منظار القولون وعينات النخاع. هذا ما اكتشفه المجلس الطبي البريطاني. تم شطب ويكفيلد من سجل الممارسة الطبية عام 2010. تمت إعادة اختبار اللقاح في عدة مراكز، وكانت النتيجة واضحة هي أنه لا توجد علاقة بينه وبين داء التوحد. هكذا وصفت الجريدة البريطانية الطبية الأمر بأنه"أسوأ خدعة طبية في تاريخ العلم". أما مجلة لانسيت فقد سحبت المقال من سجلاتها. برغم هذا كله ما زالت الصحف وبرامج التلفزيون والإنترنت مستمرة في تأكيد تخاريف ويكفيلد. إنها مجال خصب ممتاز لهواة نظرية المؤامرة الذين يفضلون التعاملمع العواطف بدلاً من الحقائق.
لاحظأن لقاح MMR ليس إجباريًا في مصر ولا إنجلترا .. أي أن إعطاءه قرار خاص بالأبوين، وتحاول إنجلترا حفز الآباء على إعادة استعماله حاليًا عن طريق زيادة تكاليف التأمين الصحي على الأبوين اللذين يرفضان تطعيم ابنهما ..بمعنى (أنتما تعرضانه للخطر .. ليكن .. ادفعا إذن وأنتما تبتسمان).

يقيم ويكفيلد حاليًا في الولايات المتحدة وهو ممنوع من ممارسة الطب في إنجلترا وفي الولايات. انتخبوه كأسوأ طبيب في العالم لعام 2011 .. كما اختاروه ليرأس قائمة الأطباء النصابين.
لكن امثال ويكفيلد لا يقنطون أبدًا .. لديه حيلة (لا كرامة لنبي في وطنه) الشهيرة ..ولديه حب الناس للشك والمؤامرات .. ولديه صيغة (لقد عم الجهلاء .. فليسكت الحكماء). لهذا يحظى بشعبية لا بأس بها ويعتبره الكثيرون بطلاً، وهو يعلن دومًا أن هناك مؤامرة ضده من السلطات الصحية و شركات الأدوية .. ويؤكد أن كل التقارير عن انتشار داء الحصبة ملفقة للنيل من سمعته العلمية.
أرجوأن تتذكر هذا المقال عندما تقابل النصاب التالي .....

No comments:

Post a Comment