Friday, February 14, 2014

حازم الببلاوي : بين التوظيف وخلق فرص عمل - جريدة الأهرام ١١ فبراير ٢٠١٣




الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعمل، وهو يعمل باختياره وإرادته، وحين يعمل فإنه يجدد ويبتكر، وإذا كان الإنسان يعمل لإشباع حاجاته، فإنه من خلال هذا العمل يُغير البيئة التي يعيش فيها، ومن هنا قامت الحضارات، فالإنسان وحده صانع للحضارات من خلال العمل والابتكار والتجديد، أما الحيوان فإنه لا يعمل، وإنما تحركه غرائزه للحصول على قوت يومه في عملية روتينية بلا تبديل أو تغيير؛ فهو عبد للبيئة ولغرائزه الموروثة، لا حرية له أو اختيار، فالإنسان وحده صانع للحضارات؛ لأنه وحده يعمل.
ولكن العمل وثماره ليسا منحة مجانية من السماء، بل هما فرصة يكتسبها بالجهد والألم والصبر؛ فالطبيعة لا توزع جوائز مجانية على الأفراد، بل عليهم بالكد والجهد البحث عن مكامن الثروة، وهو ما يتحقق بالعمل الجاد، وأحيانًا الشاق، مع استثمار الأفكار المبتكرة، وتحمل الفشل مرة ومرات قبل تحقيق النجاح، ولا يمنع ذلك من أن يتحقق — أحيانًا — بعض النجاح عن طريق الحظ أو الصدفة، ولكن هذا النجاح هو نوع من الاستثناء على القاعدة العامة، وهي ضرورة اكتساب النجاح بالعمل والعرق والصبر والمثابرة، وهذا هو الطريق الوحيد للتقدم وبناء الحضارات.
ولكل ذلك، فإن العمل هو حق للإنسان بقدر ما هو واجب عليه، بل إن العمل هو شرف له، فلا تكتمل إنسانية الفرد واحترامه لنفسه إلا بالعمل الجاد والشريف؛ فمن كان قادرًا على العمل ولا يجد عملًا، فإن إنسانيته لا تكون كاملة؛ ولذلك فإن المجتمعات التي لا توفر فرصًا كافية للعمل لمواطنيها، فإنها تحرمهم من التمتع بكامل حقوقهم الإنسانية، فالعمل حق بقدر ما هو واجب، فلكل فرد الحق في العمل الشريف كما أنه واجب عليه، وبالمثل فإن على الدولة أن تعمل على توفير فرص العمل لأبنائها؛ لاستيعاب طاقاتهم الخلَّاقة، وبما يعود عليهم وعلى المجتمع بالخير.
ولكن فرص العمل لا تعني مجرد خلق وظائف وهمية لمجرد توزيع مرتبات على المتقدمين لهذه الوظائف، دون أن يكون من وراء هذه الوظائف أية إضافة إلى الناتج القومي، فإذا لم يترتب على العمل «قيمة مضافة» فهو ليس عملًا، بل هو نوع من الإعانة الاجتماعية، ولا يمكن أن تتقدم الدول اعتمادًا على الإعانات الاجتماعية وحدها، فالإعانات مطلوبة وضرورة — في كل مجتمع — لمن تمنعهم ظروفهم الصحية أو الاجتماعية من العمل المفيد، أما أن يتحول جزء كبير من أبناء الشعب إلى منتفعين بالإعانات الاجتماعية تحت أسماء وهمية؛ فهذا خطر على المجتمع وعلى الأفراد.
وطالما نتحدث عن أهمية العمل في المجتمع، فإنه من الضروري أن تتضح المسئولية الفردية والاجتماعية؛ فهناك مسئولية على المجتمع ممثلًا في الدولة، كما أن هناك مسئولية على كل فرد للبحث عن عمل مشروع، وفي كل هذا فلا وجود للعمل إن لم يكن مرتبطًا بزيادة في الإنتاج.
الدولة مسئولة عن توفير فرص عمل بخلق مناخ مناسب للاستثمار، وهذا يتطلب ضرورة قيام الدولة بتوفير بنية أساسية مادية ومؤسسية لخلق فرص عمل، فقيام الدولة بدورها التقليدي في حفظ الأمن والعدل والاستقرار أمر لا مناص منه لخلق فرص العمل، ودون دولة قانون مع قضاء نزيه وعادل وسريع وغير مكلف؛ فإنه من الصعب تحقيق أي انتعاش في الاستثمارات، ولكن على الدولة أن تقوم أيضًا بتوفير مقومات البنية الأساسية من طرق وطاقة واتصالات ومياه وصرف صحي وحماية للبيئة، كذلك فإن التعليم والتدريب هو أحد المقومات الأساسية لخلق فرص عمل حقيقية، وبشرط أن يكون تعليمًا حقيقيًّا، وليس مجرد منح شهادات دون تعليم أو خبرة فنية، وكذلك فإن الشفافية في المعلومات أساسية لقيام صناعات قادرة ومنافسة؛ فهذه كلها أوليات لخلق مناخ مناسب لزيادة فرص العمل المنتج، كذلك هناك ضرورة وضوح السياسات الاقتصادية بكل ما يتطلب من توفير البيئة المناسبة للأعمال والاستثمار، وبالمثل فإن الدولة مسئولة عن توفير عناصر العدالة الاجتماعية في المساواة في الفرص، وتمكين الفئات الضعيفة اجتماعيًّا من كسر الحواجز التي تحول بينها وبين الاندماج في الاقتصاد الإنتاجي، وليست السياسة الخارجية بعيدة عن زيادة فرص العمل، وذلك بإقامة علاقات صحية مع العالم الخارجي.
وفي كل هذا يتضح أن مسئولية الدولة عن توفير فرص العمل وثيقة الصلة بمسئولية الدولة عن تحقيق التنمية الاقتصادية، ففرص العمل هي نتيجة لتحقيق التنمية، كما أنها الوسيلة إليها في نفس الوقت، ولكن الخطورة تكمن إذا اختارت الدولة الطريق السهل والخطأ في نفس الوقت باعتماد سياسة التوظيف في الحكومة، باعتبارها حلًّا لمشكلة البطالة؛ فهذا ليس علاجًا للمشكلة بقدر ما هو هروب منها، وتعميق لها؛ ففي مصر أكثر من ستة ملايين موظف، والحكومة المصرية هي من أكبر الحكومات في العالم من حيث عدد العاملين فيها، ونتيجة لهذا التكدس الإداري، فإن مرتبات العاملين (أقصد الغالبية منهم) متدنية، ولا تكفي لضمان حياة كريمة، ومن هنا تدني أو انعدام الكفاءة فيها، وازدياد معدلات الفساد بها، وغلبة التواكل، وانعدام أو ضعف المبادرة والابتكار فيها، فأجهزة الحكومة — في ظل الأوضاع القائمة — وبسبب هذا التكدس الإداري أصبحت أخطر العوائق للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
من حق الشباب أن يتطلع إلى زيادة فرص العمل، وهي الفرص الحقيقية لتفجير الطاقات، واختبار الأفكار الجديدة، ولكن مزيدًا من الوظائف الحكومية ليس — في أغلب الأحوال — فرصًا حقيقية للعمل بقدر ما هو تخدير مؤقت وغير قابل للاستمرار.
لقد قدمت الحكومات السابقة العديد من المشروعات للشباب، ولا أدري ما آلت إليه هذه المشروعات، وربما تكون هناك حاجة إلى النظر في تلك المشروعات، واستخلاص الدروس عن أسباب فشلها إذا لم تكن قد حققت أهدافها، ومحاولة إصلاحها إذا كانت قابلة للإصلاح، ولمصر تجربة طويلة في محاولة زيادة فرص العمل، والتي كانت في أغلبها زيادة عدد الوظائف الحكومية؛ مما زاد في تكدس الحكومة، وتدهور خدماتها، وزيادة أعباء الموازنة دون زيادة حقيقية في الناتج القومي، وعلينا أن نتعلم من أخطائنا، وليس أن نكررها.
أخشى أن يؤدي الاعتماد على زيادة التوظيف الحكومي إلى تأسيس مجتمع أبوي يعتمد فيه الأفراد على الدولة لتوفير دخل لهم، ليس بالمساهمة في زيادة إنتاجية البلد، وإنما بالحصول على مرتب حكومي مع زيادة أعباء البيروقراطية المصرية المعروفة، فنصبح بذلك شعبًا من «عيال الدولة» نعتمد فيه على ما تخصصه الموازنة في بند الأجور دون صلة بما يمكن توفيره للناس من خدمات يحتاجها المجتمع، وتصبح الوظائف العامة عبئًا على الموازنة العامة والمجتمع، وليست إسهامًا في زيادة الناتج والإنتاجية.
حقًّا يجب أن يكون خلق فرص عمل حقيقية هو الهاجس الأكبر للدولة، وبشرط أن تكون هذه الفرصة تعبيرًا عن إضافة حقيقية للاقتصاد والمجتمع، بزيادة قدرة الاقتصاد وليس بزيادة عدد الموظفين، الذين يقال إن إنتاجيتهم الحقيقية لا تجاوز عدة دقائق أو حتى ساعات في السنة، فمجرد زيادة عدد الموظفين ليس علاجًا لمرض البطالة، بل قد يزيده سوءًا، فهذا التوظيف لا يعدو أن يكون نوعًا من الهروب إلى الأمام بزيادة أعباء البيروقراطية، وترهل الخدمات الحكومية، وربما زيادة معدلات الفساد في المستويات الدنيا والوسطى للعمل الحكومي، وهي أخطر أنواع الفساد. والله أعلم.
فقدت مصر خلال الأيام الماضية أحد علماء الاقتصاد البارزين، الدكتور حسين عبد الله، الخبير الاقتصادي المعروف في اقتصاديات البترول، وقد عمل وكيلًا لوزارة البترول، وكانت له إسهامات هامة في هذا المجال، وقد تعرفت على الدكتور عبد الله أثناء عملنا سويًّا في جامعة الكويت عند بداية إنشائها. رحم الله الفقيد وألهم أسرته الصبر والسلوان.

No comments:

Post a Comment