Thursday, February 20, 2014

داني رودريك : أوجه الخطأ (والصواب) في الاقتصاد




أجرت الرابطة الاقتصادية العالمية حوارًا معي مؤخرًا حول حالة الاقتصاد، تضمَّن أسئلة عن آرائي حول التعددية في هذه المهنة. نُشر الحوار في الرسالة الإخبارية الخاصة بالرابطة. وأُعيد ها هنا نشر نسخة منه.

(١) كيف يمكنك عرض رؤيتك للاقتصاد باختصار؟

في الحقيقة أنا تقليديٌّ إلى حدٍّ ما وأتبع الاتجاه السائد فيما يتعلق بالمناهج، لكني في العموم غير تقليدي إلى حدٍّ بعيد فيما يتعلق بالاستنتاجات المتعلِّقة بالسياسات. لم أنظر قط إلى الاقتصاد الكلاسيكي الجديد على أنه عقبة في طريق فهم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، بل على عكس ذلك أؤمن بوجود عادات عقلية معينة مفيدة بالفعل ترتبط بالتفكير في العالم من منظور اقتصاد الاتجاه السائد أو الاقتصاد التقليدي؛ كضرورة أن تعرض أفكارك بوضوح، وأن تتأكد من كونها متماسكة داخليًّا ومتضمِّنة افتراضاتٍ واضحة وروابط سببية، وأن تتحرى الدقة في استخدامك للأدلة التجريبية.
لكن هذا لا يعني أن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد يحوي كل الإجابات، أو أنه يمثِّل كل ما نحتاج إليه، فغالبًا ما يفتقر الأشخاص الذين يستخدمون أدوات اقتصاد الاتجاه السائد في عملهم إلى الطموح الذي يدفع إلى طرح أسئلة شاملة، وإلى الخيال الذي يتيح لهم الخروج من الإطار النمطي الذي اعتادوا العمل به. إلا أن هذه الظاهرة تنطبق على جميع أنواع «العلم القياسي». يستخدم الاقتصاديون العظماء حقًّا المناهج الكلاسيكية الجديدة للاستفادة منها؛ من أجل الوصول إلى ذرى جديدة في الفهم، لا لتبسيط فهمنا. وما الاقتصاديان جورج أكرلوف، وبول كروجمن، وجو ستيجليتس سوى بعض الأسماء التي ترد بالذهن كنماذج على اتباع هذا التقليد؛ إذ شكك كلٌّ منهما في المعرفة التقليدية، وذلك انطلاقًا من الداخل لا من الخارج.
من الانتقادات النمطية الموجهة للفكر الاقتصادي السائد كونه محدودًا أكثر من اللازم في الاستنتاجات السياسية التي يخلص إليها. وغالبًا ما يُنظر إلى الاقتصاديين من هذا الاتجاه على أنهم مدافعون عن أيديولوجية اقتصاد السوق. أعترف أن معظم زملائي من الاقتصاديين يميلون إلى اعتبار الأسواق كيانات مرغوبة في حد ذاتها، وأن التدخل الحكومي أمر غير مرغوب فيه في حد ذاته. لكن في الواقع ما ندرِّسه لطلابنا في قاعات الدرس — طلاب الدراسات العليا إن لم يكن طلاب الجامعة كذلك — وما نتحدث عنه في الندوات إجمالًا يشتمل في معظمه على الطرق المتنوعة لفشل السوق. تعجبني مقوله قديمة للاقتصادي كارلوس دياز-أليخاندرو يقول فيها ما معناه: «الآن في وسع أي طالب دراسات عليا ابتكار أي استنتاج سياسي يرغب فيه عبر دمج الافتراضات المناسبة في نموذجه.» كان ذلك منذ ثلاثين عامًا تقريبًا! لدينا الآن وفرة أكثر في النماذج التي تفرز استنتاجات غير تقليديَّة.
أحد ردود الفعل التي أتلقاها عندما أقول هذا هي كالتالي: «كيف يكون علم الاقتصاد مفيدًا إذا كان لديك نموذج لكل نتيجة ممكنة؟» حسنًا أرد على هذا قائلًا: إن العالم معقد، ونحن نفهمه عبر تبسيطه. تتصرف الأسواق على نحو مختلف عندما يوجد الكثير من البائعين عما هو الحال عند وجود عدد قليل منهم، وحتى عند وجود القليل من البائعين، تختلف النتائج بناءً على طبيعة التفاعلات الاستراتيجية بينهم. وأفضل ما يمكننا عمله هو فهم بنية السلوك في كل حالة من تلك الحالات، ثم اتباع منهج تجريبي يساعدنا على تطبيق النموذج الصحيح على السياق المحدد الذي نهتم به. إذن نحن لدينا «علم اقتصاد واحد ومناهج متعددة» وفقًا لأحد العناوين الفرعية في كتاب من كتبي. وعلى عكس العلوم الطبيعية، أعتقد أن التقدم في علم الاقتصاد لا يحدث عبر إحلال النماذج الجديدة محل النماذج القديمة، لكن عبر ظهور مجموعة أقوى من النماذج التي تلقي ضوءًا أكثر سطوعًا على ضروب التجربة الاجتماعية.
وعلى الرغم من ذلك، لدى الاقتصاد المعاصر في أمريكا الشمالية نقطة ضعف رئيسية، وهي التركيز الزائد على المناهج على حساب التوسع في المنظور الاجتماعي والتاريخي. فبرامج الدكتوراه الآن تتخصَّص في تدريب الرياضيين التطبيقيين والإحصائيين بدلًا من الاقتصاديين الحقيقيين. بينما لكي تصبح اقتصاديًّا حقيقيًّا، يجب أن تقرأ في مجالات متعددة — مثل التاريخ، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية وغير ذلك من فروع المعرفة الأخرى — وهي قراءات لا تُطلب منك وأنت طالب في الجامعة. لكن أفضل الاقتصاديين اليوم يجدون سبيلًا لتعويض هذه الفجوة في تعليمهم. أعتبر نفسي محظوظًا للغاية لأني تخصصت في العلوم السياسية وحصلت على درجة الماجستير في الشئون العامة (كما يطلقون عليها في جامعة برنستن) قبل تحولي إلى علم الاقتصاد، وأعتبر نفسي كذلك لأن بعضًا من أفضل أعمالي — من وجهة نظري على الأقل — كانت مدفوعة بأسئلة ونقاشات صادفتُها خارج نطاق الاقتصاد الكلاسيكي الجديد.

(٢) كيف تربط هذا باقتصاد الاتجاه السائد؟

كما ذكرت آنفًا، النقطة التي أفترق عندها عن كثير من زملائي تكمُن في الاستنتاجات السياسية التي أتوصل إليها؛ إذ يعتبرني العديد منهم مؤيدًا لأقصى حد لسياسة الاقتصاد الموجه، أو ربما معاديًا لسياسة السوق. فأجد أحد زملائي في قسم الاقتصاد بجامعة هارفرد يحيِّيني كلما رآني قائلًا: «كيف حال الثورة؟» إذ إن أحد العيوب المميزة لاقتصاد الاتجاه السائد هو الميل للاستخفاف بالأهمية الفعلية لجميع الأسباب النظرية وراء فشل السوق وكون التدخل الحكومي أمرًا مرغوبًا فيه.
يصل هذا الميل أحيانًا إلى أبعاد هزلية، فتجد واضعي النظريات التجارية ممن أسسوا حياتهم المهنية بأكملها على نتائج «شاذة» هم في الوقت نفسه أكبر المدافعين عن سياسة التجارة الحرة. وتجد اقتصاديي النمو والتنمية الذين تنحصر أعمالهم في نماذج تشتمل على جميع أنواع المؤثرات الخارجية هم في نفس الوقت مناصرين متشددين لسياسات إجماع واشنطن. وعندما تشكك في الاستنتاجات السياسية هذه، فستواجَه كالعادة بالكثير من الجدل غير المنطقي. سيقولون لك: إن الحكومة فاسدة وتدس يدها في جيوب الساعين وراء الريع، وإنها لا تملك المعلومات الكافية التي تمكنها من الاضطلاع بأنواع التدخل السليمة على أية حال. بطريقة أو بأخرى، لا تستطيع عقول أولئك المفكرين الخبراء في المجال التحليلي التفكير جيدًا عندما يضطرون إلى تناول التطبيقات السياسية المترتبة على النماذج التي وضعوها بأنفسهم تناولًا جديًّا.
من ثم — ومما يثير المفارقة — أرى أن لمنهجي غير التقليدي أسسًا أقوى في مناهج الاقتصاد السائد مقارنة بآراء كثير من اقتصاديي هذا الاتجاه أنفسهم.

(٣) هل تعتقد أن هناك حاجة لاتجاه أكثر تعددية؟ وما العوامل التي تعيق مثل هذا التطور وتدعمه؟

الأمر يتوقف على ما تعنيه بالتعددية؛ فالتعددية في المناهج أصعب بمراحل، وهي نقطة سوف أعود إليها لاحقًا. لكن التعددية في السياسة هي واقع فعلي حتى ضمن حدود المناهج الحالية، كما أشرت من قبل. تشهد المهنة اليوم نقاشات إيجابية حول الحد الأدنى للأجور، والسياسة المالية، والإشراف على النظام المالي، والعديد من المجالات الأخرى كذلك. أعتقد أن كثيرًا من نقَّاد مهنة الاقتصاد يتغاضون عن هذه الاختلافات أو يعتبرونها استثناءً لا القاعدة. يوجد بالفعل بعض المجالات — التجارة الدولية على سبيل المثال — حيث تقل آراء الاقتصاديين في تنوعها عن الرأي العام إجمالًا. لكن علم الاقتصاد اليوم ليس فرعًا معرفيًّا يتميز بقدر كبير من اتحاد الآراء حول معظم جوانبه.
لكن هذا لا يعني أن علم الاقتصاد جنة التعددية، فهناك قوى مؤثرة ترتبط بمبادئ علم الاجتماع التي تحكم المهنة وبعملية التثقيف الاجتماعي التي تميل إلى دفع الاقتصاديين للتفكير بالطريقة نفسها. يبدأ معظم الاقتصاديين الدراسة في كليات الدراسات العليا، بينما لم يمضوا وقتًا طويلًا في تأمل المشاكل الاجتماعية، أو لم يدرسوا الكثير من العلوم الأخرى بخلاف الرياضيات والاقتصاد. كذلك تميل أنظمة الترقي والتحفيز إلى مكافأة من يملكون المهارات الفنية بدلًا ممن يطرحون الأسئلة المثيرة للاهتمام أو يقدِّمون برامج بحثية. وهكذا تتطور عقلية تفصل بين من معنا ومن يخالفنا في مرحلة مبكرة إلى حدٍّ ما، وهي عقلية تضع الاقتصاديين في مواجهة مع غيرهم من العلماء الاجتماعيين. يميل الاقتصاديون كافة إلى الاقتناع بمجموعة من القيم التي تنزع إلى تعظيم السوق وشيطنة التدخل الحكومي.
إلا أن ما يميز على الأرجح علماء اقتصاد الاتجاه السائد هو إجلالهم لقوة الأسواق، وإيمانهم بأن منطق السوق سيتغلب في النهاية على أي عقبة تُوضع في طريقه، وبالتالي يميل الاقتصاديون إلى ازدراء العلماء الاجتماعيين الآخرين باعتبارهم زملاء بعيدين أقل كفاءة، ربما يطرحون أسئلة مثيرة للاهتمام أحيانًا لكنهم لا يتوصلون إلى الإجابات الصحيحة مطلقًا. أو إذا كانت إجاباتهم صحيحة فهي بعيدة كل البعد عن الأسباب الصحيحة منهجيًّا. بل إن الاقتصاديين المنتمين لأنظمة فكرية مختلفة يعامَلون كما هو متوقع ﮐ «اقتصاديين غير حقيقيين» أو «اقتصاديين غير جادين».
هكذا نجد أن نسبة العقبات التي تواجه الاقتصاديين ممن يرغبون في الابتعاد عن المسار التقليدي مرتفعة إلى حدٍّ ما. بدايةً، لا بد لهم من الالتزام بالقواعد المنهجية للمهنة، وهو ما يعني استخدام لغة الرياضيات، وأطر العمل القياسية الفعالة القائمة على التوازن العام، وأدوات الاقتصاد القياسي المعتمدة. يحتم عليهم كذلك تأدية واجباتهم وإثبات أنهم ما زالوا أعضاءً منتمين لهذا العالم وذوي سمعة حسنة. بالنسبة لي — ولأمثالي — ممن يجدون قيمة كبيرة في تلك الانحيازات المنهجية، فإن تلك الواجبات تستحق التأدية، تبقيني تلك المناهج صادقًا على المستوى الفكري، فهي وسيلة لإقناع نفسي بأني أدرك ما أتحدَّث عنه. وارتباطي بتلك المناهج لا يرجع إلى أسباب ذرائعية؛ أي لكي أحظى بالقبول ضمن المنتمين لاقتصاد الاتجاه السائد (رغم كونها ساعدتني في ذلك على ما يبدو؛ فلم يعد في وسع خصومي الفكريين إقصائي بسهولة عبر ادعاء أني «لست اقتصاديًّا حقيقيًّا …») لكني أتفهم أيضًا من يجدون مناهج اقتصاد الاتجاه السائد مقيدة أكثر مما ينبغي أو عديمة الجدوى، وأعتقد أنهم يقدمون كذلك قيمة ما عبر طرح نقد صادر من أعين خارجية. فكثيرًا ما أجد نفسي أتفق مع هؤلاء النقاد على أسس جوهرية، لكني أجد كذلك الكثير مما يستحق النقد في أعمالهم بناءً على أسس منهجية.
كذلك يمكننا التمادي في نقد التماثل المنهجي في علم الاقتصاد. بالطبع ليس استخدام الأساليب الرياضية والإحصائية مشكلة في حد ذاته، فهذه الأساليب تضمن ببساطة الترابط النظري والتجريبي لنقاشاتنا. بالفعل يطرح التركيز المفرط على تلك الأساليب — أو استخدام الرياضيات حبًّا فيها فحسب — مشكلة، لكنها مشكلة تُواجِه بالفعل تحركًا مضادًّا من الداخل. ويمكنني القول إن معظم الأبحاث العلمية المعتمدة بشدة على الرياضيات في أهم الدوريات الاقتصادية في مجالنا تدفعها أسئلة مهمة لا مشكلات نابعة من المناهج المستخدمة.
لكن الأشياء تتغير. إن أشد تطورين إثارة في علم الاقتصاد خلال العقدين الأخيرين هما ثورتان؛ إحداهما سلوكية والأخرى تجريبية. تركت الأولى أثرًا بالغًا على بديهيات منطق الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، بينما قادت الثورة الثانية مهنة الاقتصاد إلى اتجاه تجريبي موجه نحو السياسات بشكل عميق. وهما يمثلان تغييرات مهمة في كيفية ممارسة اقتصاد الاتجاه السائد. أما حقيقة حدوثهما فتشير إلى وجود متسع للتغيرات المنهجية. ربما لا يصل الأمر إلى حد التعددية، لكنه يظل تطورًا ما في المناهج. عن نفسي، لست بالضرورة من كبار مشجعي أيٍّ من هذين التطورين المنهجيين، لكنهما يوضحان قدرة المهنة على التكيف والتغير. من الملاحظ كذلك أن كلتا مجموعتي المناهج الجديدة هاتين انبعثتا من خارج علم الاقتصاد؛ من علم النفس والطب على التوالي. وقد استولى الاقتصاديون الشباب على تلك المناهج ثم غيَّروا علم الاقتصاد من الداخل.

(٤) هل هناك دروس تعلمتها من خبراتك في تحدي المعرفة التقليدية؟ وما تلك الدروس؟

إذا أردت أن تصبح باحثًا ناجحًا، فعليك أن تختار من بين مسارين اثنين: إما أن تتوصل إلى أسلوب أو دليل جديد لتدعيم المعرفة التقليدية، وإما أن تتحدى المعرفة التقليدية. الخيار الأخير عبارة عن استراتيجية ذات مخاطرة وعائد كبير؛ إذ ترتفع بها درجة المخاطرة بالنظر إلى جميع الأسباب التي ذكرتها سابقًا، لكن عائدها كبير؛ لأن أي شيء تحول إلى معرفة تقليدية يكاد يكون خطأً من الأصل أو على الأقل مبالغًا فيه، ومن ثم يصبح تحدي المعرفة التقليدية استراتيجية بحث ناجحة ذات مردود حتمي إذا نُفِّذ على نحو صحيح.
في حالتي الخاصة كان كل جزء تحديته من المعرفة التقليدية قد تحول بالفعل إلى صورة ساخرة لما يعلمنا إياه الاقتصاد الصحيح. فلم أكن أفعل ما يزيد عن تذكير زملائي بالنظرية الاقتصادية والمبادئ التجريبية القياسية، كنت كمثل من يدفع بابًا مفتوحًا. لم أكن أتحدى الاقتصاد، بل مبادئ علم الاجتماع التي تحكم المهنة. على سبيل المثال، عندما بدأت أنتقد إجماع واشنطن للمرة الأولى اعتقدت أنني أقوم بأمر بديهي؛ إذ إن القواعد الأساسية البسيطة التي يتمحور حولها الإجماع ليس لها نظير في علم اقتصاد الرفاهة الفعلي، ولا هي مدعمة جيدًا من الناحية التجريبية بالنظر إلى تجربة شرق آسيا مع النماذج الاقتصادية غير التقليدية. وعندما تستفهم من المؤيدين عن قرب فسيردون عليك في البداية ببعض الحجج الاقتصادية المتحيزة للغاية، ثم سيلجئون — في محاولة أخيرة — إلى بعض الجدل السياسي غير المنطقي (عبر عبارات مثل «نحن في حاجة إلى إجبار الحكومة على التوقف عن ممارسة هذه الأفعال، وإلا سينتشر الاستغلال والسعي وراء الريع …») أما حجتي فكانت وجوب التناول الجدي للاقتصاد (والاقتصاد السياسي) بدرجة أكبر من التناول البسيط له كمجموعة من القواعد الأساسية. يعلمنا علم الاقتصاد أن نفكر بأسلوب شرطي، فالعقبات المختلفة تقتضي وسائل إصلاح مختلفة. وتقودنا طريقة التفكير تلك بطبيعة الحال إلى أسلوب لوضع السياسات يهتم بالسياق؛ أي أسلوب تشخيصي بدلًا من أسلوب الخطط التفصيلية التقليدي.
وعلى نحو مماثل، عندما شككت في بعضٍ من المزاعم المبالغ فيها حول فوائد العولمة كنت أُذكِّر ببساطة العاملين بالمجال بما يعلمنا إياه علم الاقتصاد. فلتنظر على سبيل المثال إلى العلاقة بين أرباح التجارة والتبعات التوزيعية للتجارة، فحتى يومنا هذا يميل العاملون بمجال الاقتصاد إلى المبالغة في تقدير الأولى والتقليل من شأن الثانية، وهو ما يحسِّن كثيرًا من صورة العولمة: بحيث تبدو قاصرة على تحقيق أرباح صافية مع قليل من المصاريف التوزيعية. لكن إذا نظرت إلى النماذج الأساسية لنظرية التجارة والميزة النسبية التي نُدرِّسها في قاعة الدرس، فستلاحظ الارتباط المباشر بين الأرباح الصافية وأحجام إعادة التوزيع في معظم تلك النماذج. فكلما زاد صافي الأرباح، زاد حجم عملية إعادة التوزيع. رغم ذلك ترجع الأرباح المحققة في الكفاءة الإنتاجية إلى التغير الهيكلي، وهي عملية تنتج بطبيعتها رابحين (عبر توسع بعض القطاعات وزيادة العاملين بها) وخاسرين (عبر تقلص بعض القطاعات ونقص العاملين بها). فمن غير المعقول الزعم بزيادة حجم الأرباح مع قلة حجم إعادة التوزيع، على الأقل في سياق النماذج القياسية. وعلاوة على ذلك، مع زيادة حرية التجارة ترتفع نسبة إعادة التوزيع إلى الأرباح. وأخيرًا، فإن محاولة جني بضعة الدولارات الباقية من مكسب الكفاءة ستأتي على «حساب» إعادة توزيعٍ جدية للدخل. مرة أخرى إنها أوليات علم الاقتصاد.
لكن التصريح بكل هذا لن يجلب لك بالضرورة شعبية كبيرة على الفور؛ إذ أذكر جيدًا رد الفعل الذي تلقَّيته عندما قدمت بحثي العلمي (بالمشاركة مع الاقتصادي فرانسيسكو رودريجيز) حول النواحي التجريبية لسياسة التجارة والنمو. تمتلئ الأبحاث في هذا المجال بمزاعم مبالغ فيها حول تأثير تحرير التجارة على النمو الاقتصادي، لكننا وضَّحنا في بحثنا أن الأبحاث حتى الآن لم تستطع تدعيم تلك المزاعم؛ إذ لم تُشِر أي أبحاث نظرية أو تجريبية إلى وجود تأثير قوي وضخم من الناحية الكمية، ويمكن التنبؤ به لتحرير التجارة على النمو. كنا نعرض ببساطة ما ينبغي أن يعرفه أي اقتصادي متمرس. ورغم ذلك أثار البحث جدلًا واسعًا لدرجة أن أحد زملائي في جامعة هارفرد سألني في جلسة لطرح الأسئلة: «لماذا تفعل هذا؟» وهو سؤال أصابني بالذهول، وكأن نوعًا معينًا من المعرفة يتسم بالخطورة.
قبل ذلك بسنوات، عندما كتبت دراستي المتخصصة «هل تجاوزت العولمة الحدود؟» دُهشتُ من بعض ردود الأفعال المماثلة، كنت أتوقع بالطبع ردًّا عدائيًّا من كثير من المدافعين عن هذه السياسة، لكن الحجج التي أوردتُها كانت معتمدة اعتمادًا قويًّا على النظرية والتفكير الاقتصادي، أو هكذا كنت أعتقد. كتب أحد الاقتصاديين البارزين يرد عليَّ قائلًا: «أنت تقدم دعمًا للهمج.» بعبارة أخرى كان ينبغي عليَّ ممارسة الرقابة الذاتية خشية أن تُستخدم حججي من قِبل أنصار حماية التجارة الوطنية. وكان السؤال الذي خطر لي عقب هذا الرد مباشرة هو لماذا يعتقد هذا الاقتصادي أن الهمج ينتمون لطرف واحد من طرفي الجدال؟ هل كان لا يعي — على سبيل المثال — كيف اختطفت المؤسسات متعددة الجنسيات الحجج المؤيدة لحرية التجارة بهدف الحشد من أجل اتفاقات لا تمتُّ لحرية التجارة بصلة مثل تلك الخاصة بالملكية الفكرية؟ لماذا يُعتبر «الهمج» في أحد طرفي الخلاف أخطر بطبيعتهم من «الهمج» لدى الطرف الآخر؟
لكن في النهاية تأتي مكافأة تحدي المعرفة التقليدية التي تجاوزت الحدود، وهي أن يتضح كونك محقًّا في آخر الأمر. فإجماع واشنطن أصبح عقيمًا في جوهره، وحلَّ محله منهج أبسط بمراحل يعترف بأهمية القيود الملزمة محليًّا، وأصبحت العديد من الحجج التي قدمتها حول الطبيعة العرضية للفوائد الناتجة عن العولمة التجارية والمالية أقرب كثيرًا من الاتجاه الفكري السائد اليوم عن ذي قبل. لكني لا أنظر إلى هذا باعتباره إنجازًا عظيمًا، فتلك التغييرات كانت حتمية الحدوث، وكل ما فعلته في الأساس هو إلقاء الضوء عليها.
أتصور أن كل هذا يقدم عبرة للباحثين الشباب؛ ألا وهي: عليك تمييز أي إجماع فكري تجاوز ما تستطيع النظرية والتجربة دعمه، ومن ثم محاولة الهجوم عليه وإضعافه تدريجيًّا. لكن عليك تنفيذ هذا دون الانحراف أكثر من اللازم عن المناهج المعتمدة لدى الفرع المعرفي الذي تدرسه.
What Is Wrong (and Right) in Economics? by Dani Rodrik. Dani Rodrik’s Weblog. May 7, 2013.

No comments:

Post a Comment