Tuesday, February 4, 2014

حازم الببلاوي : التفكير خارج الصندوق - جريدة الاهرام 11 مارس 2013




ليس المقصود من هذا العنوان الإشارة، بوجه خاص، إلى صندوق النقد الدولي، وإنما المقصود هو التفكير في حلول غير تقليدية لمشكلاتنا والبحث عن أفكار جديدة ابتكارية وخارجة عن المألوف. فهناك اتهام، صريح أو ضمني، بأن المسئولين ينتهجون عادة أساليب تقليدية مستقرة بلا خيال أو إبداع. وهو اتهام، وإن كان في أحيان كثيرة مبررًا، فإنه في أحيان أخرى لا يخلو من مبالغة، ولا شك أن التفكير الإبداعي هو أحد أهم عوامل التقدم؛ فقدرة الإنسان على الخيال، وعلى «التفكير خارج الصندوق»، بالمعنى المتقدم، هي السبب في ظهور الحضارات وتقدم الأمم. كل هذا صحيح، ولا أعتقد أن هناك خلافًا حوله. إذن أين المشكلة؟
المشكلة أن هناك عددًا غير قليل من الكتَّاب — وقد زادت أعدادهم في الفترة الأخيرة — الذين ينتقدون العديد من السياسات القائمة مطالبين بضرورة التفكير «خارج الصندوق» دون تقديم أية بدائل مبتكرة واقتراحات محددة بدلًا من تلك الأفكار التقليدية. وقد كان موضوع الاقتراض من صندوق النقد الدولي ومحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية من أكثر الموضوعات التي أثارت اعتراضًا، باعتبارها نوعًا من التفكير من «داخل الصندوق»، في حين أن المطلوب هو البحث عن أفكار جديدة مبتكرة.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الاعتماد على مصادر خارجية مثل صندوق النقد الدولي أو الاستثمارات الأجنبية لا يخلو من العديد من القيود والأعباء، ولكن البدائل — إذا كانت موجودة — لا تخلو هي الأخرى من قيود وأعباء أخرى قد تفوقها ألمًا وصعوبة، فنحن دائمًا إزاء خيارات، ولكل منها مزايا وأعباء، ولا يوجد خيار واحد بلا تكلفة أو تضحية. والسؤال هو كيفية الاختيار لتقليل الأعباء والتكاليف وليس إلغاءها، فلا شيء في الحياة بلا تكلفة، وليس هناك وجبات مجانية! فالخيار عادة ليس بين الحسن والسيئ، بل هو غالبًا خيار بين المُر والأمرِّ منه.
كذلك فليس الأمر دائمًا مجرد «وجهات نظر» يمكن أن تختلف بين كاتب وآخر، بل هناك أحيانًا قيود حديدية على القرارات ولا يمكن تجاوزها، فكما أن عمليات الحساب من جمع وطرح أو ضرب وقسمة، ليست مجالًا لاختلاف الآراء بل هي قيود حديدية على قواعد الحساب، فكذا العديد من العلاقات الاقتصادية؛ فكما أنه ليست هناك وجهات نظر متعددة حول حاصل ضرب عددين، فلا تستطيع دولة — أو فرد — أن ينفق بأكثر من دخله إلا بالاستعانة بالغير، وفي هذه الحدود فقط. كذلك فإن إنتاج الدولة يوزع على الاستهلاك والاستثمار، ولا يمكن زيادة الاستثمار دون ضغط على الاستهلاك. وبالمثل فإن النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج وحدهما هما اللذان يسمحان بزيادة الاستهلاك والاستثمار معًا، ولكن زيادة الإنتاج لا تتحقق في التو واللحظة، وإنما تتطلب فترة زمنية يزيد فيها الاستثمار ويضبط معها الاستهلاك. كذلك لا يمكن بيع سلعة بأقل من تكلفتها، وإذا حدث وأن بيعت بثمن أقل، فإن الفارق في التكلفة لا بد وأن يتحمله آخرون. وإذا كانت بعض السلع المدعمة تباع في السوق بأسعار أقل من تكلفتها، فليس معنى ذلك أن هذه التكلفة قد انخفضت على المجتمع في مجموعه مع الدعم، وإنما معناه أن فرق التكلفة قد تم تحميله على آخرين في المجتمع في شكل ارتفاع في الأسعار، أو نقص في الاستثمارات الممكنة أو الخدمات المقدَّمة، أو بإهدار في صيانة المرافق العامة. فالتكلفة يدفعها دائمًا المجتمع. كذلك فإنه ليس من الضروري أن يصل الدعم في أغلبيته للمستهلك، بل إن أغلبه يبدَّد لصالح الوسطاء. فالدعم ليس دائمًا نعمة على المستهلكين، بل قد تكون له تكلفة عالية على مستقبل المجتمع بإهدار موارد مهمة على الوسطاء وحرمان المجتمع من موارد كان يمكن تخصيصها للاستثمار وتحسين آفاق المستقبل. وأخيرًا، وبصرف النظر عن فوائد وعيوب الدعم، فإن هناك استحالة في استمرار عجز الموازنة إلى ما لا نهاية. هذه كلها حقائق أشبه بالمعادلات الحسابية، وليست مجرد وجهات نظر يمكن الاختلاف حولها.
كذلك كثر الجدل في إطار الحديث عن ضرورة «التفكير خارج الصندوق»، بتأكيد ضرورة الاعتماد على الذات، وهذه دعوة صحيحة وهامة، ولم يحدث أن تقدَّمت دولة إلا بجهود أبنائها، فلا يمكن أن يتحقق أي إنجاز كبير اعتمادًا على الآخرين فقط، ولكن «الاعتماد على الذات» لا يعني الانكفاء على الذات ومعاداة «الغير»، فالشوفونية والعداء للأجنبي مرض خطير وضار. لقد عرفت البشرية تاريخًا مظلمًا وظالمًا للاستعمار، استغلت فيه الدول الاستعمارية (إنجلترا وفرنسا بوجه خاص) مستعمريها، ولكن ليس معنى ذلك أن كل معاملات العالم هي من قبيل الاستعمار والاستغلال، فكثيرًا ما جاء تقدم الدول اقتصاديًّا من خلال التعاون الدولي. فالولايات المتحدة الأمريكية، طوال القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين، كانت تتلقى استثمارات خارجية ساعدتها على نهضتها الصناعية، وإذا نظرنا إلى التاريخ الحديث نجد أن معظم الدول التي حققت نهضة صناعية منذ نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين قد استفادت من الاستثمارات الأجنبية؛ فتجارب اليابان ثم دول جنوب شرق آسيا، وأخيرًا الصين وكذا الهند والبرازيل، قد اعتمدت بشكل كبير على الاستثمارات الأجنبية ثم على قدرتها على التصدير، فنجاح تجربة اليابان أو النمور الآسيوية أو الصين، وأخيرًا الهند، اعتمادها كلها على الانفتاح على العالم الخارجي وعلى التصدير، وحتى الاتحاد السوفييتي — والذي اعتمد على سياسة الاكتفاء الذاتي والانغلاق على الداخل — قد استفاد هو الآخر بشكل كبير من العلاقات الاقتصادية الخارجية. ولعلنا نتذكر أن بداية برامج التخطيط الخمسية، والتي بدأت في الاتحاد السوفييتي في ١٩٢٨، قد تزامنت مع الأزمة الاقتصادية العالمية، مما مكَّن الاتحاد السوفييتي من الحصول على الكثير من التسهيلات الائتمانية من البنوك الأمريكية، والتي كانت تواجِه انكماشًا اقتصاديًّا محليًّا مما دفعها إلى زيادة التسهيلات الائتمانية للاتحاد السوفييتي. وقد ساعدت هذه التسهيلات الائتمانية على استيراد العديد من وسائل الإنتاج الحديثة إلى روسيا. وبعد دخول روسيا الحرب ضد ألمانيا استفادت من قانون الإعارة والتأجير في أمريكا مما سهَّل عليها الحصول على أكثر من الواردات الصناعية الأمريكية، وذلك بتسهيلات ائتمانية ساعدتها على نهضتها التكنولوجية. وهكذا فإن تجارب الدول للتصنيع في القرن العشرين قد اعتمدت بشكل كبير على التصدير وعلى الاستثمار الأجنبي.
والخلاصة أنه يجب حقًّا التفكير «خارج الصندوق»، ولكن هناك حقائق لا يمكن القفز عليها، فالدولة لا تستطيع أن تعيش بأكثر من مواردها، كما أن الدول الفقيرة تستهلك نسبة مرتفعة من إنتاجها، وادخارها المحلي غير كافٍ، ولا يمكن تحقيق معدلات عالية من النمو دون زيادة الاستثمار المحلي، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون ضغط على الاستهلاك أو بالاستعانة باستثمارات أجنبية. وبهذه المناسبة، فإن معدل الاستهلاك في مصر يبلغ نحو ٨٥٪ من الناتج القومي؛ أي إن الادخار يدور حول ١٥٪ فقط، وهو معدل غير كافٍ لتحقيق نهضة اقتصادية. وقد نجحت دول النمور الآسيوية ثم الصين في تحقيق مثل تلك النهضة؛ لأنها استطاعت أن تقوم باستثمارات بمعدل يفوق ٣٠٪ من الناتج القومي على مدى نحو ثلاثة عقود. فمصر في حاجة إلى استثمارات خارجية. وأخيرًا، فإنه ينبغي التذكير بأن التقدم لا يتحقق إلا بنوع من التضحيات، كما أنه لا يتحقق بين يوم وليلة، ولذا فلا بد من الصبر والمثابرة، وفي النهاية ليس هناك ما هو أكثر ضررًا من الانكفاء على الذات ومعاداة الآخرين.
مصر أحوج ما تكون للانفتاح على العالم، ولكن ليس معنى الانفتاح التبعية والخضوع، وهذا بالضبط ما فعلته البرازيل وتركيا وكوريا ومن قبلها الصين وغيرها من الاقتصادات الناجحة. لا بأس من «التفكير خارج الصندوق» وانتهاج أساليب جديدة وغير تقليدية، بشرط أن تكون هذه الدعوات محددة وواقعية وقابلة للتنفيذ، وليست مجرد عبارات مرسلة أو تمنيات غير واقعية. والله أعلم.

No comments:

Post a Comment