Wednesday, February 5, 2014

كلاي شيركي : نابستر وأوداسيتي والتعليم الأكاديمي




منذ خمسة عشر عامًا، أعلنت جماعة بحثية تُدعَى «معهد فراونهوفر» عن تنسيق رقمي جديد لضغط ملفات الأفلام. ولم يكن ذلك بالاختراع فائق الأهمية، ولكن كان له أثر جانبي مثير للاهتمام: فقد كان على فراونهوفر أيضًا التوصل إلى كيفية ضغط الموسيقى التصويرية لهذه الأفلام. وكانت النتيجة ظهور «تنسيق مجموعة خبراء الصور المتحركة ١ بالطبقة الصوتية ٣»، وهو التنسيق الذي عرفتموه وأحببتموه، وإن كان ذلك باسمه المختصر «إم بي ٣».
وكان ما خلصت إليه صناعة الموسيقى هو أن تنسيق الصوت هذا لن يشكِّل تهديدًا، لأن الجودة هي الأهم. فمن سيستمع لملف صوت بتنسيق إم بي ٣ إذا كان يمكنه أن يشتري قرصًا مضغوطًا أنقى صوتًا من متجر الأسطوانات؟ بعد ذلك انطلق برنامج نابستر، وسرعان ما أصبح البرنامج الأسرع انتشارًا في التاريخ. فقاضت صناعة الموسيقى شركة نابستر وربحت الدعوى القضائية، ومن ثم انهارت الشركة واختفى البرنامج على نحو مفاجئ أكثر مما صعد.
لو أن نابستر كانت تتعلق بحرية الوصول فحسب، لكان وضع ضوابط على التوزيع القانوني للموسيقى كفيلًا بإعادة الهيمنة لشركات التسجيلات الموسيقية. ولكن لم يكن ذلك ما حدث. بل ظهرت برامج «باندورا» و«لاست دوت إف إم» و«سبوتيفاي» و«آي تيونز». وبدأ موقع أمازون يبيع الأغاني بتنسيق إم بي ٣ الذي كان في الماضي بغيضًا.
فكيف ربحت صناعة الموسيقى المعركة لكنها خسرت الحرب؟ كيف حققت مثل ذلك النصر الحاسم على نابستر، ثم فشلت في استعادة السيطرة حتى على قنوات التوزيع القانونية؟ لقد سحقت مؤسسة نابستر، ودمرت اسمها التجاري، وجرمت الأدوات التي استخدمتها، ولكن الشيء الوحيد الذي عجزت عن القضاء عليه كان الفكرة التي روجتها نابستر.
كانت الفكرة التي اعتادت صناعة الموسيقى على ترويجها شيئًا من قبيل: «يا شباب، لقد سجَّلت ألانيس موريسيت لتوها ثلاث أغان رائعة! يمكنكم أن تحصلوا عليها، ما دمتم ستدفعون ثمن الأغاني العشرة متوسطة الجودة التي سجلتها في الوقت نفسه.» أما نابستر فتبنت فكرة مختلفة؛ إذ قالت: «أتريدون الأغنيات الثلاث فحسب؟ حسنًا. أغنية «ينبغي أن تعلم» فقط؟ لا بأس. كل تسجيلات أغنية «الحذاء الأزرق المدبوغ»؟ تفضَّلوا. الأمر أمركم.»
قطعًا لم يكن الأشخاص العاملون في مجال صناعة الموسيقى حمقى. فقد كانوا يدخلون على الإنترنت ذاتها كبقيتنا. ولكن لم يكن في مقدرتهم أن يتخيلوا — وأقصد هذا على نحو وصفي عادي تمامًا — أن أسلوب العمل القديم قد يتداعى. ولكنّ الأمور تداعت بالفعل، وهو ما يُعزَى إلى حد بعيد إلى أنه — بعد نابستر — طرأ ببال ملايين الناس فجأة أن فكرة إصرار شركات التسجيلات على أن ينطوي التوزيع الرقمي على التكلفة والمشقة ذاتها كالذهاب إلى متجر الأسطوانات هي فكرة بالغة السوء.
وما إن تر هذا النمط — فكرة جديدة تعيد تشكيل مفهوم الناس عما يمكن تحقيقه، ويكون أصحاب المناصب آخر من يعلم — حتى تراه في كل مكان. في البداية، لا يلحظ القائمون على إدارة النظام القديم التغيير الحادث. وعندما يلحظونه يفترضون أنه تغيير ثانوي، ثم إنه محدود الأثر، ثم موضة عابرة. وبحلول الوقت الذي يدركون فيه أن العالم تغير حقًّا، يكونون قد أهدروا معظم الوقت المتاح لهم للتكيُّف مع الوضع.
كان من الممتع مشاهدة حدوث ذلك في مجال الموسيقى والكتب والصحف والتلفاز، ولكنني لم أستمتع يومًا قدر استمتاعي بمشاهدة حدوثه في مجال تخصصي. فالتعليم العالي حاليًّا في حالة اضطراب؛ فمقابل إم بي ٣ لدينا «المقررات الإلكترونية المفتوحة ذات الالتحاق الهائل»، ومقابل نابستر لدينا مؤسسة «أوداسيتي» الناشئة في مجال التعليم.
لا شك في أننا نتمتع في مجال التعليم بمزايا عدة مقارنةً بصناعة الموسيقى. فنحن نتسم باللامركزية، وأكثرنا لا يهدف للربح، ونوظِّف الكثير من الأشخاص الأذكياء. ولدينا نماذج سابقة نتعلم منها، وتكمن نقطة قوتنا الأساسية في التعلم من الماضي. ومع تسلُّحنا بتلك المميزات، الأرجح أننا سنفسد الوضع تمامًا مثلما فعل العاملون في قطاع الموسيقى.
***
جدير بالذكر أن تلك المقررات الإلكترونية المفتوحة عادةً ما تتكون من سلسلة من المحاضرات المسجَّلة بالفيديو تصحبها مواد مكتوبة واختبارات للتقييم الذاتي، مفتوحة للجميع. وهذا ما منحها لقب «مقررات إلكترونية مفتوحة». أما عن جزء «الالتحاق الهائل»، فيأتي من الانتشار في جميع أنحاء العالم. فكما تعلمنا من موقع ويكيبيديا، الطلب على المعرفة هائل إلى حد أن المواد الجيدة المتاحة مجانًا على الإنترنت يمكنها أن تجتذب أعدادًا ضخمة من الناس من جميع أنحاء العالم.
في العام الماضي اجتذب مقرر إلكتروني بعنوان «مقدمة إلى الذكاء الاصطناعي» صدر عن جامعة ستانفورد ودرّسه بيتر نورفيج وسيباستيان ثران، ١٦٠ ألف طالب محتمل، أكمل منهم ٢٣ ألف طالب المقرر، وهو مقياس يتضاءل إلى جواره أي شيء يمكن تحقيقه في أي حرم جامعي مادي. ويقول ثران في معرض حديثه عن هذا المقرر: «لقد درَّسنا أنا وبيتر الذكاء الاصطناعي لعدد من الطلاب يفوق ما درّسه جميع أساتذة الذكاء الاصطناعي في العالم مجتمعين.» لذا استقال من الجامعة وأنشأ مؤسسة «أوداسيتي»، وهي مؤسسة تعليمية أُنشئت بغرض تقديم «المقررات الإلكترونية المفتوحة ذات الالتحاق الهائل».
وقد أثار حجم الإقبال على المقرر الذي قدمه ثران ونورفيج، إضافةً إلى ما لاقته مؤسسة أوداسيتي من اهتمام (والمؤسسات الشبيهة مثل «كورسيرا»، و«بي تو بي يو»، و«يونيفرسيتي أوف ذا بيبول»)، قلق أكاديميين كثر إزاء أثر ذلك على التعليم العالي. وكان أكثر المقالات التي أعربت عن ذلك القلق تأثيرًا حتى الآن مقالة الرأي «مشكلة التعليم الإلكتروني»، التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز بقلم مارك إدمنسون من جامعة فرجينيا. وكبقية النقاد، صبّ إدمنسون اهتمامه على مسألة الجودة، طارحًا سؤالًا ومجيبًا عنه بنفسه، هو: «هل يمكن للتعليم الإلكتروني أن يصنف يومًا كتعليم من النوع الأفضل؟»
أنا وأنتم نعلم ما يقصده ﺑ «النوع الأفضل»؛ الحلقات الدراسية المقدمة في الكليات على نحو شخصي وجهًا لوجه، حبذا لو أدارها أعضاء دائمون في هيئة التدريس. إنه يدافع عن تعليم العلوم الإنسانية والاجتماعية في كلية داخلية انتقائية ويسأل: «لماذا قد يلتحق أي شخص بصف على الإنترنت إذا كان يمكنه دفع مقابل تعليم أفضل لدى جامعة فرجينيا؟»
ولكن من الذي يتاح له هذا الخيار؟ هل يمكننا أن نتخيل فتى في الثامنة عشرة من عمره يمكنه تخصيص ٢٥٠ ألف دولار أمريكي و٤ سنوات، لكنه مع ذلك سيواجه صعوبة في الاختيار بين كلية داخلية وسلسلة من المقررات الإلكترونية المفتوحة؟ لن يهجر طلاب صفوة المدارس الثانوية كليات الصفوة في أي وقت في المستقبل القريب، فالمسألة ليست هي كيف يبدو التعليم من «النوع الأفضل»، وإنما كيف يبدو النظام ككل.
لم يبلغ الجنون بإدمنسون أن يحتج بأن جميع الخبرات الجامعية جيدة، لذا فقد استخدم كلامًا مطاطيًّا، فهو يقول: «إن كل محاضرة جديرة بالتذكر تشبه إلى حد ما مقطوعة من موسيقى الجاز.» دون أن يقدِّم تشبيهًا مماثلًا للمحاضرات غير الجديرة بالتذكر. ويؤكد أنّ «المحاضرات الكبيرة يمكن أيضًا أن تخلق مجتمعًا فكريًّا حقيقيًّا»، وهو ما يعني قطعًا أنها يمكن أيضًا ألا تفعل. (ولم يذكر عدد المحاضرات الكبيرة التي رسبت في هذا الاختبار.) ويقول: «إن المقررات الحقيقية تحقق متعة عقلية.» وهي جملة يمكن أن تكون دقيقة على سبيل الحشو والإطناب لا أكثر. (وهذا أمر معتاد من طرف منتقدي المقررات الإلكترونية المفتوحة: فعليك أن تغض الطرف متى قال أحدهم «فعلي» أو «حقيقي» أو «صادق» لإخفاء حقيقة أنه لا يتحدث إلا عن كليات الصفوة عوضًا عن الخبرات الجامعية المتوسطة.)
لقد أسعدني الحظ بالحصول على مثل ذلك التعليم الجامعي الذي يثني عليه إدمنسون؛ أربعة أعوام في جامعة ييل، بين جنبات مجتمع فكري مدهش، حتى المحاضرات الكبيرة فيه كان يلقيها نوابغ بحق. فبعد مرور عقود من الزمان، ما زلت أذكر وصف أستاذ تاريخ الفن للوحة «زفاف أرنولفيني»، ولم تطلعني دراسة الشعر الحديث على أعمال إزرا باوند وهيلدا دوليتل فحسب، بل إنها غيرت رؤيتي للقرن العشرين.
ولكن أتدرون؟ لم تكن تلك المحاضرات تشبه مقطوعات الجاز. ولم تخلق مجتمعًا فكريًّا حقيقيًّا. بل حتى إنها لم تخلق مجتمعًا فكريًّا بديلًا. كانت محاضرات رائعة فحسب؛ فكنا نحضر، ونصغي، وندوِّن بعض الملاحظات، ثم نغادر، مستعدين لمناقشة ما سمعناه في صفوف أصغر.
وهل كان الأساتذة هم أيضًا من يدرسّون لنا في الصفوف محدودة العدد؟ لا، بالطبع لا؛ فقد كان المعيدون هم مدرسو تلك الصفوف. لا أدري ما كانوا يتلقونه مقابل تدريسنا، ولكنه لم يمثل نسبة كبيرة من رواتب الأساتذة. والمحاضرات الكبيرة لم تكن أداة لتحقيق المتعة العقلية، وإنما أداة لتخفيض نفقات الصفوف التمهيدية.
***
يعاني التعليم العالي حالة متردية من مرض التكلفة (الذي يُنسَب أحيانًا إلى بومول، أحد منظّريه.) والنموذج الكلاسيكي عليه هو الرباعية الوترية؛ إذ كان عزف الرباعية التي تستغرق ١٥ دقيقة يتطلب ساعة تراكمية من وقت العازفين في عام ١٨٥٠، وما زالت تستغرق الساعة ذاتها حاليًّا. ولا يسري ذلك على إنتاج الأغذية أو الملابس أو وسائل المواصلات، التي شهدت جميعها زيادات هائلة في القيمة الناتجة لكل ساعة عمل. ولسوء الحظ، لا تنجح الوسائل البديهية لزيادة كفاءة الإنتاج — عزف عدد أقل من الموسيقيين بصورة أسرع — مع صناعة الموسيقى كما تنجح مع صناعة السيارات.
بإمكان المؤسسات التي تعاني مرض التكلفة أن توظِّف عمالًا يتقاضون أجورًا أقل، أو تزيد عدد المستهلكين مقابل كل عامل، أو تدعم الإنتاج، أو ترفع الأسعار. أما الموسيقى الحية، فيعني ذلك تعيين عازفين أقل موهبةً أو زيادة عدد التذاكر المباعة لكل حفل موسيقي أو كتابة طلبات للحصول على منح أو — بالتأكيد — رفع أسعار التذاكر. وأما الكليات، فيعني ذلك تعيين المزيد من المعيدين والمدرسين غير المتفرغين أو زيادة عدد الطلاب الملتحقين وحجم الصفوف أو جمع التبرعات أو — بالطبع — رفع المصاريف الدراسية.
أما العمل الرائع الذي تناول الكليات ومرض التكلفة فهو كتاب روبرت أرشيبالد وديفيد فلدمان بعنوان «ما سبب ارتفاع تكلفة الدراسة في الكليات؟» وفيها خلص أرشيبالد وفلدمان إلى أن التفسيرات المراعية للاعتبارات المؤسسية — من الطلاب المدللين الذين يتوقعون تقديم كل وسائل التعلم لهم دون بذل مجهود من جانبهم، وتعظيم الإدارة لذاتها على حساب الرسالة التعليمية — لا يمكنها الصمود أمام الملاحظة العامة؛ أن الكليات تحتاج إلى أشخاص كثيرين على درجة عالية من المهارة، أشخاص زاد ما يحصلون عليه من أجور ومزايا ودعم بمعدل أسرع من معدل التضخم طيلة الأعوام الثلاثين الماضية.
ويتيح المعيدون منخفضو التكلفة للكليات خفض تكلفة تدريس الصفوف محدودة العدد مع مواصلة تقديم المحاضرات كمنتج حِرَفي من الصفر، وفي المكان والوقت المحددين. إلا أنك ما إن تشرع في محاولة تفسير سبب سلوكنا هذا الاتجاه، حتى يبدو النظام شاذًّا إلى حد ما. فكيف سيكون حال التدريس في جامعة لا يمكنك فيها أن تخصِّص للدراسة سوى الكتب التي ألفتها بنفسك؟ ولا يمكنك أن تطلب من طلابك أن يقرءوا سوى المقالات الصحفية التي كتبها زملاؤك في هيئة التدريس؟ أمر سخيف، وغير معقول.
فكل كلية تتيح الوصول إلى مجموعة ضخمة من القراءات المحتملة، ومجموعة ضئيلة من المحاضرات المحتملة. ونطلب من الطلاب قراءة أفضل ما يمكننا الحصول عليه من مؤلفات، أيًّا كان مصدرها وأينما كانت، ولكننا لا نطلب منهم أن يستمعوا إلا إلى أفضل محاضرة يمكن لأستاذ لدينا أن يقدمها صباح ذلك اليوم. أحيانًا تكون في مكان تتلقى فيه أفضل محاضرة يمكن لأستاذك أن يلقيها. ولكن في أغلب الأحيان لا يكون ذاك هو الحال. وكان الأمر الوحيد الذي حال دون أن يبدو ذلك النظام غريبًا هو أننا لم تتوافر لدينا قط من قبل وسيلة مناسبة لنشر المحاضرات.
وهنا يكمن الفرق الشاسع بين الموسيقى والتعليم. فبدءًا من أسطوانات إديسون الشمعية، ومرورًا بموقع باندورا وجهاز الآي بود، لم ينبع التغيير الأكبر في استهلاك الموسيقى من إنتاجها وإنما من إعادة تشغيلها وتوزيعها. فقد بات سماع رباعية وترية ممتازة تعزف عزفًا حيًّا أمامك أمرًا باهظ التكلفة حقًّا، كما تشير نظرية مرض التكلفة، ولكن في الوقت نفسه، فإن معظم الموسيقى المسموعة في أي يوم لم تعد هي التي تُعزَف في عروض حية.
***
إن جامعة هارفرد — التي حالفني الحظ بشغل منصب محاضر زائر فيها منذ نحو عامين — هي المؤسسة الفضلى المتفق عليها فيما بيننا، وهي مكان استثنائي فعلًا. ولكنّ ذلك التفوق في حد ذاته ينبغي أن يثير شكوكنا. فمخصصات هارفرد — ٣١ مليار دولار — تتخطى المتوسط ثلاثمائة مرة، ولا تتمتع سوى كلية واحدة من كل خمس كليات بمخصصات من الأساس. ولا يَدْرِس في هارفرد أيضًا سوى عُشر في المائة من حوالي ١٨ مليون طالب ملتحقين بالتعليم العالي في أي سنة. فأي جملة تبدأ بعبارة «فلنأخذ هارفرد كمثال …» ينبغي أن يتبعها فورًا «كلا، دعونا لا نفعل ذلك.»
ولا تقتصر تلك المميزات غير النمطية التي تمنح لصفوة المؤسسات التعليمية على هارفرد. فالكليات الخمسون التي تحتل رأس قائمة مجلة «يو إس نيوز أند ورلد ريبورت» (التي تتضمن أغلب الكليات التي سمعت بها) لا يدرس بها أكثر من نحو ٣٪ فقط من تعداد الطلاب الحالي، ويدرس في كليات القائمة كلها — حوالي ٢٥٠ كلية — أقل من ٢٥٪ من ذلك التعداد.
وتسير منظومة الكليات الأمريكية على نهج مهرجانات «البوتلاتش»؛ التي كان الهنود الحمر يقيمونها للتباهي بعطاءاتهم. ويترتب على الأشياء ذاتها التي تقدرها قائمة «يو إس نيوز» الخاصة بكليات القمة — ألا وهي انخفاض متوسط حجم الفصول، ونسبة أعضاء هيئة التدريس إلى الطلاب — أن أي مؤسسة تسعى إلى إقامة تعليم فعّال من حيث التكلفة ستنتقل إلى مرتبة أدنى على القائمة. ولذا جاءت معظم أوائل الأعمال المعنية بالمقررات الإلكترونية المفتوحة من جهة ستانفورد وهارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. فحَسَب قول إيان بوجست، تسوق المقررات الإلكترونية المفتوحة ذات الالتحاق الهائل لكليات الصفوة.
إلا أنه خارج إطار مؤسسات الصفوة، تلتحق النسبة المتبقية من الطلاب والبالغة ٧٥٪ — أكثر من ١٣ مليون طالب — بالأربعة آلاف مؤسسة التي لم تسمع بها، مثل: كلية أبراهام بالدوين الزراعية، وكلية بريدجرلاند للتكنولوجيا التطبيقية، والمعهد المعملي للتجارة. فعندما نتحدث عن التعليم الجامعي في الولايات المتحدة، عادة ما تُسقَط تلك المؤسسات من الحديث، وإنْ كانت جامعة كلايتون ستيت يدرس فيها نفس عدد الطلاب الذي يدرس في هارفرد، ويدرس في سانت ليو ضعف هذا العدد. أما جامعة سيتي كوليدج بسان فرانسيسكو فيلتحق بها عدد من الطلاب يعادل عدد طلاب جامعات رابطة اللبلاب (أشهر وأقدم جامعات الولايات المتحدة) مجتمعين. فتلك الكليات يدرس فيها أغلب الطلاب، وتعبِّر الخبرات المتكونة لديهم عن حال التعليم الجامعي بشكل عام.
***
ولا يدور النزاع بشأن المقررات الإلكترونية المفتوحة ذات الالتحاق الهائل حول قيمة الكليات؛ فجزء كبير من المؤسسات الأربعة آلاف التي لم تسمع بها تقدم تعليمًا غالي الثمن ولكن متوسط الجودة. وتقبل بعض الجامعات التي تهدف إلى الربح مثل جامعة كابلان وجامعة فينكس حوالي طالب واحد من كل ثمانية طلاب، ولكنها مسئولة عما يقرب من نصف حالات التخلف عن سداد قروض التعليم الجامعي، ويفشل السواد الأعظم من الطلاب الملتحقين بها في الحصول على درجة علمية حتى بعد مرور ستة أعوام. وبمطالعة الصحف الأكاديمية، لن يخطر ببالك أن تلك الإحصاءات تمثل تخليًا عن رسالتنا أكثر خطورة بكثير من مساعدة الناس على تعلم شيء عن الذكاء الاصطناعي مجانًا.
بالمثل، لا يدور النزاع بشأن المقررات الإلكترونية المفتوحة ذات الالتحاق الهائل حول قيمة التعليم الإلكتروني. فمئات المؤسسات تقدِّم بالفعل دورات إلكترونية مدعومة بقروض تعليمية، وقد التحق بها نصف مليون طالب فعلًا. فلو كان نقاد التعليم الإلكتروني ثابتين على مبدئهم، لاعتبروا أن «بكالوريوس الدراسات متعددة التخصصات» الذي تقدمه جامعة فرجينيا أو «شهادة إم إل آي إس» التي تقدمها جامعة روتجر شيئين مستنكرين، وإلا سيتطلب منهم هذا الإقرار بوجود سبيل موثوق به لتقديم التعليم الإلكتروني، سبيلًا يمكن للمقررات الإلكترونية المفتوحة أن تحاكيه. وما من دليل يدعم أيًّا من الرأيين.
يُعزى ذلك إلى أن النزاع بشأن المقررات الإلكترونية يدور في الواقع حول طريقة تفكيرنا في التعليم العالي: ما هو، وما الغرض منه، وكيف يقدَّم، ومن يقدِّمه. فالفكرة الأكثر انتشارًا عن الكليات تركِّز تركيزًا مهووسًا على كليات الصفوة وتجيب عن خليط مجنون من الأسئلة: كيف لنا أن ندرِّس التفكير المركَّب والمهارات المركَّبة؟ كيف سنصنع من المراهقين أفرادًا أسوياء ينتمون للطبقة الوسطى؟ من سيضمن أن ثمة تعليمًا يُقدَّم؟ كيف سنغرس توقير فرجيل واحترامه في عقول الطلاب؟ من سيدعم عمل الأساتذة؟
تتجاهل المقررات الإلكترونية المفتوحة ذات الالتحاق الهائل ببساطة العديد من تلك الأسئلة. والإمكانية التي تتيحها المقررات الإلكترونية ليست هي أن تحل محل الكليات؛ فأي شيء يمكنه أن يحل محل الخبرة الجامعية التقليدية سيكون لزامًا عليه أن يعمل مثلها، وأفضل المؤسسات عملًا كالكليات هي في الأساس كليات. بل ما تتيحه المقررات الإلكترونية هو إمكانية استخراج الأجزاء التعليمية من العملية التعليمية. وتوسع تلك المقررات نطاق متلقّي التعليم ليشمل الأشخاص الذين يتلقّون خدمة رديئة أو المنعزلين تمامًا عن منظومة التعليم الحالية، مثلما وسّعت أجهزة الفونوغراف نطاق جمهور السيمفونيات ليشمل الأشخاص العاجزين عن الذهاب إلى قاعات الحفلات الموسيقية، ووسّعت أجهزة الكمبيوتر الشخصية نطاق مستخدمي إمكانيات الحوسبة ليشمل الأشخاص غير العاملين في شركات كبرى.
في البداية كانت النظم الأولى التي تقوم عليها تلك الاختراعات أدنى منزلةً بصورة ملحوظة من بدائلها الأعلى ثمنًا؛ فكانت الأسطوانات تصدر صريرًا، وكانت أجهزة الكمبيوتر الشخصية كثيرة الأعطال. ولكنها بدأت في التحسن شيئًا فشيئًا، حتى بلغت في النهاية مبلغًا من الجودة، وفي الوقت نفسه من الرخص، غيَّر مفهوم الناس عما يمكن تحقيقه.
في الولايات المتحدة الأمريكية، كان التعليم الجامعي في الماضي اختياريًّا؛ إذ كان طريقة من طرق الوصول إلى الطبقة الوسطى. أما الآن فقد صار من الضرورة بمكان، بحيث لا يمكن الاستغناء عنه لتجنب الانفصال عن الطبقة الوسطى. وإذا توصل البعض ممن يلاقون صعوبة في الالتحاق بالتعليم الجامعي إلى أن المنظومة السارية حاليًّا هي فكرة بغيضة، فسينفصل التعلم عندئذ عن السعي وراء الدرجات العلمية مثلما انفصلت الأغاني عن الأقراص المدمجة.
وإذا حدث ذلك، فلن يصيب الجامعات مثل هارفرد وستانفورد وسوارثمور وديوك سوء. ولكن ماذا عن كلية بريدجرلاند للتكنولوجيا التطبيقية؟ ربما سيصيبها سوء. وماذا عن جامعة أركنساس في ليتل روك؟ ربما سيصيبها سوء أيضًا. وماذا عن جامعة كابلان، التي يمكن أن يُعوَّل عليها كمصدر للديون أكثر من كونها مصدرًا للتعليم؟ هذه حتمًا سيصيبها سوء.
***
إن مؤسسة أوداسيتي ونظيراتها من المؤسسات لا تتظاهر حتى بأنها ترسم صورة عن الشباب الذين في الثامنة عشرة من العمر وينالون درجة البكالوريوس خلال أربعة أعوام من كلية انتقائية، إذ إن هذه الصورة لا تنطبق إلا على قلة قليلة من طلاب الولايات المتحدة، ونسبة أقل في العالم. وفي الوقت نفسه، تحاول الإجابة عن بضعة أسئلة جديدة، أسئلة لا يقرّ المجتمع الأكاديمي التقليدي — أنا وأمثالي — في كثير من الأحيان بمشروعيتها أصلًا، مثل: «كيف نشغِّل ١٠ آلاف مبرمِج كفء في السنة، في جميع أنحاء العالم، دون تكلفة تُذكَر؟»
وقد تبقى أوداسيتي أو لا تبقى، ولكن كما حدث في حالة نابستر، لا سبيل لاحتواء الفكرة التي تبنتها، ألا وهي: «من الممكن تعليم ألف شخص في الوقت نفسه، وفي فصل واحد، في جميع أنحاء العالم، مجانًا.» في رأي الشخص الأكاديمي التقليدي، قد يبدو ذلك حديثًا جنونيًّا. ففي وقت سابق من الخريف الحالي، التحق مدرس رياضيات يكتب مستخدمًا الاسم المستعار دلتا بصف «مبادئ الإحصاء» الذي يدرسّه ثران، وبعد تجربته بنفسه، كانت النتيجة التي خلص إليها هي أن هذا المقرر:
… فظيع بدرجة مذهلة وصادمة. فهو سيئ التنظيم، ويدل على انعدام تخطيط شبه تام للمحاضرات، ويخفق بصفة روتينية في تعريف المصطلحات أو الرموز القياسية أو استخدامها على نحو سليم، ويشتمل على نقلات عرضية ضخمة يستلزم اجتيازها بعض «السحر»، وينتج عنها حسابات غير معيارية ما كانت لتُقبَل في الأعمال الإحصائية العادية.
نشر دلتا عشرة انتقادات محددة لمحتوى المقرر (حسابات المنحنى الطبيعي)، وأساليب التدريس (نظام الاختبارات) والمقرر الإلكتروني المفتوح ذاته (نقص التحديثات). وبخصوص الانتقاد الأخير يقول دلتا:
فنظريًّا، أي من المشكلات التي ذكرتها أعلاه يمكن مراجعتها وإصلاحها لدى مراجعة المقرر في المستقبل. ولكن هل سيحدث ذلك في أوداسيتي، أو أي برنامج آخر من البرامج الأكاديمية الإلكترونية ذات الالتحاق الهائل؟
وفي اليوم التالي مباشرةً، أجاب ثران عن هذا السؤال. وإثر إقراره بأن دلتا «أشار إلى عدد من أوجه النقص التي تستوجب التصحيح»، شرح ثران بالتفصيل كيف سيدخلون التحديثات على الصف. ويُحسَب لدلتا أنه علَّق قائلًا إن ثران قد أجاب عن العديد من الانتقادات الموجَّهة إليه، وأردف راويًا قصة محبطة عن معلم زميل له في المؤسسة التي يعمل بها كان قد عجز عن تعريف المصطلحات الرياضية التي كان يستخدمها على الرغم من طلب الدارسين.
والمهم أن دلتا عندما كان ينتقد زميله، لم يذكر اسم الأستاذ، أو المقرر أو حتى المؤسسة التي يعمل بها. فقد أمكنه التعليق على كل جانب من جوانب صف مبادئ الإحصاء الذي تقدمه أوداسيتي (مثلما يمكنكم) ومناقشتها في العلن، ولكنه عندما شرع في انتقاد المؤسسة التي ينتمي إليها، خفف وطأة النقد.
النظم المفتوحة متاحة للجميع. وفيما يخص الأشخاص المعتادين على التعامل مع المؤسسات التي تنحرف عن الطريق المرسوم لها لإخفاء عيوبها، يُضفي ذلك بشاعةً على تلك النظم في البداية. ولكن أيًّا ممن راقبوا تطور أحد البرامج مفتوحة المصدر، أو تذكروا العاملين بموسوعة بريتانيكا حينما هاجوا وماجوا بسبب ويكيبيديا، فبالتأكيد قد رأى كيف أن النقد العلني اللاذع للنظم المفتوحة يجعلها أفضل. وما إن تتخيلوا تعليم ألف شخص في صف واحد، حتى يتضح أن المقررات المفتوحة — حتى في أطوارها الأولى — ستتمكن من رفع مستوى الجودة وتحسين مسألة إصدار الشهادات على نحو أسرع من عملية خَفْض التكاليف أو زيادة أعداد الملتحقين بالمؤسسات التقليدية.
تشمل شعارات الكليات مجموعة واسعة بدءًا من شعار كلية برين مور «أجد سعادتي في الحقيقة» وصولًا إلى شعار المعهد المعملي للتجارة «حيث تلتقي التجارة والموضة»، ولكن الآن ثمة شعار منتشر في الكثير منها، ألا وهو «الأشياء التي تعجز عن البقاء لا تبقى». وتكلفة حضور الكليات آخذة في الارتفاع مقارنة بمستوى التضخم كل عام، وتتقلص الفائدة من ورائها. ومن الجليّ أنه لا يمكن لذلك أن يدوم، ولكن لا أحد من الداخل لديه أي فكرة واضحة عن كيفية تغيير أسلوب عمل مؤسساتنا مع الإبقاء على ما نتمتع به من مزايا وامتيازات على حاله.
في المجتمع الأكاديمي، نلقي على الآخرين محاضرات كل يوم عن التعلم من التاريخ. والآن جاء دورنا، وإلا فسنكون آخر من يعلم أن العالم قد تغير، لأننا عاجزون عن تخيل — حقًّا عاجزون عن تخيل — أن ما نقوله لأنفسنا عن أنفسنا يمكن أن يصبح ذات يوم خطأ. حتى عندما تكون تلك هي الحقيقة. أو على الأحرى، خاصةً عندما تكون تلك هي الحقيقة.

No comments:

Post a Comment