() (سورة آل عمران)
إن زوال الإمبراطورية البريطانية حقيقة تاريخية طبيعية كانقراض جرم من دورة الفلك … أو انطفاء كوكب بلغ غايته، وأمسى صخرة مظلمة بعد انعدام الحياة من عناصره التكوينية، وقد جاء أجله فلا يستقدم ولا يستأخر.
ولكن هذا الموت الإمبراطوري أو الإعدام الاستعماري، قد سبقته علامات وأمارات وإشارات، ولو كانت إنجلترا أسدت إلى العالم خيرًا أو جعلت لها عند الله والناس يدًا لأسف بعضهم على زوالها ونعوها كما ننعى دولة كبيرة تركت وراءها أثرًا نافعًا أو برًّا لا ينقطع.
ولكن كتَّابا كثيرين من الإنجليز أنفسهم عبروا عما تكنُّه ضمائرهم من الارتياح لزوال الإمبراطورية يكاد يكون شماتة وتشفِّيًا.
قال أحدهم: «سيزول لقب إمبراطور عن الملك جورج السادس، ذلك اللقب الذي كان مرتبطًا بنظام قديم، ذهب الآن وذهبت معه ذكريات تاريخية عن الاستبداد والاستعمار، وللمرة الأولى منذ ألفي سنة؛ أي عشرين قرنًا، لن يكون في العالم حاكم يحمل لقبًا من ألقاب قياصرة الرومان، ولن يكون في بريطانيا شعور بالأسف على زوال لقب لم يكن محبوبًا في يوم من الأيام (هكذا).»
قلنا: إن هذا الموت لم يفاجئ أحدًا، في إنجلترا أو في سواها من بلاد العالم، غير الحمقى والنوكى من عبيد الأوهام.
خطب سير ويليام مولزورث أحد الوزراء السابقين فقال: «ينبغي لنا أن ننظر إلى مستعمراتنا، واعتبارها أجزاءً من الإمبراطورية، يسكنها رجال لهم الحق في أن يتمتعوا في أوطانهم بما يتمتع به كل إنجليزي في إنجلترا، وما دام هؤلاء المستعمَرون (بفتح الميم الثانية) لا يتدخلون في شئوننا الداخلية، فكذلك لا يجوز لنا أن نتدخل في إدارة شئونهم المحلية، إن لنا الحق في إدارة شئون الإمبراطورية العامة؛ لأن الاحتفاظ بإدارة تلك الشئون ضرورية لصيانة الوحدة الإمبراطورية، ولأننا أغنى وأقوى جزء في الإمبراطورية.» انتهت خطبة مولزورث.
وهذه الفكرة تبدو في ظاهرها متناهية في الحرية والتسامح، ولكنها تنطوي على المكر الشديد، والخوف من انقلاب المستعمرات على الظلم الصادر عن لندن، كما انقلبت الولايات المتحدة، فتظاهر السياسة الزعماء بالتساهل ليأمنوا عواقب الثورة؛ لأنهم يعلمون بالطبع أن من أخلاق بني جنسهم المقيمين في المستعمرات أنهم لا يخضعون طويلًا للظلم والإذلال، خضوع أمم الشرق، وإن ثاروا فإن حكومة لندن لا تجرؤ على قمع فتنتهم، كما تقمع ثورات الأمم الغريبة عنها.
وكان من الساسة الإنجليز رجال يبغضون الاستعمار لأسباب اقتصادية واجتماعية، ومنهم ريتشارد كويدان زعيم الفرقة الحرة في مانشستر، ومن أقواله المأثورة: إن أسعد يوم في تاريخ إنجلترا هو اليوم الذي لا يكون لها فيه فدان أرض في آسيا، كما كانت عظمى أمانيه أن تقطع كل علاقة سياسية بين إنجلترا وكندا في أسرع فرصة ممكنة.
ولكن أطماع اللوردات وكبار أرباب رءوس الأموال، وأصحاب المصانع توصَّلوا إلى السلطة في البرلمان الإنجليزي، فعادوهم الطموح، ورغبوا في التغلب على الآراء الحرة ولو في مظهرها فتوطَّد حب الإمبراطورية في قلوب الإنجليز، وصار مبدأً ثابتًا، لدى الأحرار والمحافظين جميعًا.
فألقى غلادستون خطبته الشهيرة في أدنبره ليُطَمْئِن المستعمِرين (بكسر الميم الثانية) وليثبِّت قلوب الأرستوقراطية في تعلقهم بحزب الأحرار، وأن المحافظين الأحرار سواء في التمسك بالإمبراطورية، التي معناها الغنى والأسلاب والاستغلال للشعب البريطاني، فقال وهو زعيم الأحرار:
أعتقد أننا جميعًا متحدون في تعلُّقنا بالمملكة العظيمة التي ننتمي إليها وتلك الإمبراطورية الكبرى التي وضعت أمانة في أعناقنا، وما هي إلا أمانة وتكليف من العناية الإلهية (!!) وأخص وأكرم ما كلف به فريق من الجنس البشري. وكلما أذكر تلك الأمانة وذلك التكليف أشعر بأن الألفاظ تعوزني، وأن الكلام عاجز عن التعبير عما يخالج نفسي، لا أستطيع أن أصارحكم بما أعتقده من نبل الميراث العظيم الذي كان من نصيبنا ولا عن قداسة الواجب علينا في الاحتفاظ به، ولن تسمح نفسي بالتنزل بهذا الواجب المقدس (الاحتفاظ بالإمبراطورية) إلى مستوى الجدل السياسي؛ لأنه جزء من كياني بل من لحمي ودمي، ومن قلبي وروحي (يا له من دجال كبير!) ولأجل بلوغ هذه الغاية عملت دائبًا، طوال شبابي ورجولتي وأكثر من ذلك إلى أن شابت كل شعرة في رأسي، وفيَّ هذه العقيدة والقيام بالواجب المقدس حييت وعشت وانتعشت، وبهذه سوف أقضي بينكم بقية حياتي. انتهى.
إنك لا تسمع وزيرًا ورجل دولة يتكلم، ولكنك تسمع كاهنًا أو واعظًا يبشِّر، وهو مقتنع ومؤمن، رجل خالط حب الاستعمار لحمه ودمه، وملك قلبه وروحه، ويدعي أن الاستعمار أمانة وتكليف سماوي! كما كان يعتقد ملوك فرنسا وإنجلترا في القرون الوسطى أنهم إنما يحكمون الشعب باسم الله وإرادته، وهو ما أطلقوا عليه «الحق الإلهي للملوك»، وكما كان يعتقد إمبراطور الصين أنه ابن السماء.
ومن هو الذي يتكلم؟ هو غلادستون زعيم أحرار إنجلترا العظيم، الذي رسم بهذه الخطبة خطة الاستعمار، لا لحزبه وحده بل لجميع الأحزاب، من محافظين وأحرار، حتى الأحزاب التي لم تكن ولدت بعد كحزب العمال كما أثبتت الحوادث في عهد رامزي مكدونلد وآتلي.
أما غلادستون فلم يكن مخلصًا ولا صادقًا، بل كان مشعوذًا غليظًا ودجَّالًا كبيرًا، وقد دلت سيرته على ذلك، فإنه اتخذ الانتساب إلى الأحرار حيلة ووسيلة للاشتغال بالسياسة، ولم يكن في قلبه ذرة من حب الحرية، بدليل الأعمال التي صحبت عهده، وكلها مظالم وفضائح، ومنها:
(١) إخلاء السودان بإرغام مصر على التخلّي عنه. (٢) ضرب الإسكندرية بالقنابل. (٣) احتلال مصر. (٤) اعتذاره لمصطفى كامل عن الوفاء بوعود الجلاء لخروجه من رياسة الوزارة! (٥) زعمه كذبًا أن العناية الإلهية كلفته بأمانة الإمبراطورية وقدسية هذا الواجب، وهي سفسطة وشعوذة؛ لأن العناية الإلهية لا ترضى عن إذلال الشعوب: أيرلندا، والهند، ومصر والسودان، واغتيال الماس والذهب، وتبديد شمل الجمهوريتين الهولنديتين في جنوب أفريقيا (ترنسفال وأورانج).
ولكن تغيير الأحوال وتنور الأمم وكوارث الحرب العالمية الأولى التي أشعلت نارها إنجلترا، ودفعت إليها فرنسا البلهاء المغرورة دفعًا، وانكشاف ستر إنجلترا وافتضاح أمرها في أنحاء العالم هي التي أرغمت إنجلترا على التفكك والانحلال والتخلي مغلوبة على أمرها عن الأمانة والواجب المقدس، وظلم الشعوب بتكليف من العناية الإلهية (أستغفر الله) وذلك في سنة ١٩٣١، فقد وافق البرلمان البريطاني على قانون جديد أطلق عليه اسم «دستور وستمنستر»، وهو يقتصر على تثبيت القرارات التي أصدرها المؤتمر الإمبراطوري الذي انعقد في لندن سنة ١٩٢٦، ومن جملتها التصريح الآتي:
إن بريطانيا العظمى والدومنيون طوائف مستقلة في داخل الإمبراطورية البريطانية وجميعها في مستوى واحد، غير خاضع بعضها لبعض في أية ناحية من ناحيات أمورها الداخلية أو الخارجية، على أنها مرتبطة بولاء مشترك نحو التاج، وشريكة حرة في الجامعة البريطانية، وبعبارة أخرى إن دستور وستمنستر يعلن بصفة قاطعة أنه ليس ثمة حكومة إمبراطورية ولا برلمان إمبراطوري، وأن كلمة إمبراطورية نفسها لم تعد قابلة للتطبيق على جماعة الأمم الإمبراطورية التي يطلق عليها الآن (في سنة ١٩٣١) بمقتضى هذا القانون وللمرة الأولى في التاريخ «اسم الكومونولث البريطاني للأمم».
ولفظ كومونولث معناه اللغوي والسياسي «دولة حرة أو جمهرة الشعب، سواء أكانت حكومة جمهورية أم لا، ولكنها على كل حال ليست دولة أوتوقراطية أو استبدادية».
فهذا القانون قضى على الإمبراطورية البريطانية، وعلى الروابط التي كانت تجمع شمل أجزائها ولم يبق منها إلا الرابطة المعنوية، ورابطة المنفعة، وإن هذا التحلل أو التفكك حصل على الطريقة الإنجليزية؛ أي في حدود القانون وبتشريع أصدره البرلمان، ولسان حالهم يقول: «بيدي لا بيد عمرو.»
فهو نتيجة التطور لا الثورة، وليست العبرة بالوسيلة، وإنما العبرة بالنتيجة؛ وهي زوال الإمبراطورية البريطانية من الوجود والحمد لله.
No comments:
Post a Comment