كيف عرف أهل الكونغو … حقوقهم؟
كان أرسطاطاليس يرى أن الرق ظاهرة طبيعية لا تستقيم حياة الناس بدونها، وكان يرى أن الطبيعة قد قسَّمت الناس إلى قسمين؛ أحدهما يأمر والآخر يطيع. وكان رأي أرسطاطاليس هذا ملائمًا كل الملاءمة لعصره وبيئته، ثم جاءت الحضارة الحديثة بعد كثير من الثورات وبعد ألوان كثيرة من التطور أيضًا، فاحتملت الرق وقتًا ما ثم أنكرته أشد الإنكار وضاقت به أعظم الضيق، ورأته مخالفًا أشد المخالفة لما ينبغي للإنسان من الكرامة والاستمتاع بحقه في الحرية التي تجعله مالكًا لأمره كله، وتعصمه من أن يُباع ويُشترى كما تُباع السلع وتُشترى.
وظن المصرِّفون لأمور الأمم الحديثة ذات الحضارة الراقية الممتازة التي لم تعرف الإنسانية مثلها في عصر من العصور، أنهم بذلك قد حققوا أصلًا من أصول الحضارة بأدق معنى هذه الكلمة وأوسعه وأعمقه؛ وهو تحقيق المساواة بين الناس، ولم ينسوا إلا شيئًا واحدًا وهو أنهم قد ألغوا بيع الأفراد وشراءهم، ولكنهم لم يلغوا الرق في نفسه ولم يحققوا المساواة بحال من الأحوال؛ ذلك لأنهم ألغوا استرقاق الأفراد وألغوا أسواق الرقيق التي يُباع فيها الأفراد ويُشترون، ولكنهم ابتكروا شيئًا آخر أشنع شناعة وأبشع بشاعة من استرقاق الأفراد وهو استرقاق الأمم والأوطان.
فليس الاستعمار في حقيقة الأمر إلا نوعًا بشعًا منكرًا من أنواع الاسترقاق، يُتيح للأمة القوية الماهرة أن تملك أوطان الأمم الضعيفة الغافلة بكل ما فيها وبكل من فيها. تملك الأرض وتستأثر بما فيها من الخيرات، وتتخذ أهل هذه الأرض وسيلة من وسائل الاستغلال، وتعامل هذه الأرض ومن فيها معاملة ليست أقل نكرًا من معاملة الأحرار للأرقاء في عصر أرسطاطاليس، بل قبل هذا العصر وبعده. وذلك أن الأرقاء كانوا يجدون الوسائل إلى تحرير أنفسهم؛ يشترون أنفسهم من سادتهم بالمال القليل أو الكثير، وربما احتال الرقيق في إرضاء سيده حتى يؤثره بالكرامة ويمن عليه بالحرية، وربما فرضت الديانات أو القوانين تحرير الرقيق في بعض الظروف.
أما الاستعمار فليس من هذا كله في شيء، إنما هو رق لا فكاك منه إلا بالعنف العنيف والثورات الجامحة، والذي نشهده في هذا العصر إنما هو الصراع بين المستعمرين ومستعمراتهم، يريد المستعمرون أن يستمسكوا بالسيطرة على مستعمراتهم إلى آخر الدهر إن أُتيح لهم ذلك، ولكن ذلك لا يُتاح لهم لأن الإنسان يرقى من يوم إلى يوم، ولأن هذا الرقي ليس مقصورًا على جنس ممتاز من الناس وإنما هو ميسر للناس جميعًا، وميسر لهم بفضل الحضارة الحديثة نفسها التي ابتكرت الاستعمار وأتاحت لقلة من الناس يعيشون في جزء ضئيل من الأرض أن يملكوا أكثر الأرض وأكثر الناس. فالحضارة الحديثة قد أشاعت التعليم وابتكرت الصحافة واخترعت ألوان المواصلات على اختلافها، وحببت إلى المستعمرين أن ينقلوا كثيرًا من مبتكرات الحضارة إلى مستعمراتهم؛ ليحسنوا استغلالها ويأخذوا منها أكثر مما يمكن أن تعطيهم. فهم يرسلون من أبنائهم من يقوم على استغلال الأرض وأهلها، وهم يُعلِّمون أهل هذه الأرض حظوظًا ضئيلة من العلم تهيئهم للعمل فيما يُسَخَّرون له من ضروب الاستغلال. وبإرادة المستعمرين أحيانًا وبغير إرادتهم غالبًا تتصل المستعمرات بالعالم الخارجي وتشعر بالفرق بينها وبين سادتها، ويشعر أهلها بأنفسهم قليلًا قليلًا، ويظفرون بحظوظ مختلفة من المعرفة تشعرهم بأن لهم بعض الحقوق وبأن عليهم بعض الواجبات، وبأن الحقوق التي لهم منتزعة منهم غصبًا وظلمًا، وبأن الواجبات التي عليهم لا ينبغي أن تؤدى للمستعمرين، وإنما ينبغي أن تؤدى لإخوانهم ومواطنيهم الذين يشاركونهم في الشقاء والذل، ويعيشون مثلهم عيشة البؤس والهوان. ويشيع هذا الشعور بالحقوق المغصوبة وبالواجبات التي ينبغي أن يؤديها الناس لأنفسهم ولمواطنيهم، ويبدأ الضيق بالاستعمار، ثم لا يلبث أن يقوى وينتشر وتضطرم ناره في القلوب، ثم تتجاوز القلوب إلى الألسنة، ثم تتجاوز الألسنة إلى الحياة الظاهرة وإلى الصلة بينهم وبين سادتهم المستعمرين، ثم ينتهي الأمر إلى الثورة بهؤلاء السادة؛ ويبدأ في سبيل استرداد الحقوق المغصوبة، وأولها الحق في أن يكون الإنسان حرًّا سيدًا لنفسه وسيدًا في وطنه. ولا نعرف مستعمرة تحررت إلا على كُره من مستعمريها، ولا ينبغي أن يخدعنا ما نرى من تحرر بعض المستعمرات الفرنسية في القارة الأفريقية في غير حرب ولا صراع منذ قامت الجمهورية الفرنسية الخامسة، فلو قد استطاعت فرنسا أن تقول لا لكل هذه المستعمرات التي تطلب استقلالها لما ترددت في قولها، ولو قد استطاعت أن تُكره مستعمراتها هذه على الخضوع والإذعان بالقوة لما ترددت في إكراهها؛ ولكنها حاولت الإكراه في الهند الصينية فأُكرهت هي على أن تعترف بالاستقلال لدول الهند الصينية، وحاولت أن تُكره المغرب الأقصى وتونس فأُكرهت هي على أن تعترف لهما بالاستقلال راغمة، وهي الآن تنفق ما تنفق من الجهد وترسل من ترسل من الجند وتبذل ما تبذل من المال لتكره الجزائر على الإذعان، وليس من شك في أن الجزائر ستُكرهها على أن تعترف لها بالاستقلال في وقت يقصر أو يطول.
فهي أعجز إذن من أن تفرض الإذعان على مستعمراتها بالقوة، وليس لها إلا أن تجيب هذه المستعمرات إلى ما تريد، وتحتال مع ذلك ما وسعتها الحيلة في أن تستبقي لنفسها بعض الامتياز والنفوذ في مستعمراتها بعد أن تتحرر. وكذلك صنعت بلجيكا في مستعمراتها الأفريقية: أخضعتها لسلطانها قريبًا من قرن، وحكمتها حكمًا لا لين فيه ولا رفق، وأذلتها إذلالًا لم تعرفه مستعمرة من المستعمرات. لم تُعلِّم من أهلها أحدًا ولم تهيئ من أهلها أحدًا لعمل ذي بال؛ وإنما اتخذت الأرض وأهلها رقيقًا كأشنع ما يكون الرق وعبيدًا كأبشع ما يكون الاستعباد. كانت تستأثر بالخير كله في هذه المستعمرة، تسيطر عليها بالقوة العسكرية، وتُرسل أبناءها المستعمرين ليستغلوا الأرض وأهلها في ظل هذا السلطان العسكري الشنيع، فكان الرقيق من أهلها يعملون في استثمار الأرض مقرَّنين في السلاسل والأغلال.
وكانت ثمرات هذه المستعمرة خالصة لها من دون هؤلاء العمال البائسين، وكانت القاعدة التي أقامت عليها سيرتها في هذه المستعمرة يسيرة جدًّا تُختصر في كلمات قليلة لإعاء (هكذا في الأصل (ولعلها الإذعان).) حيث لا علم. ومعنى ذلك أنها كانت تعتمد على الجهل المطلق في مستعمرتها لتسخر أهل هذه المستعمرة لكل ما تريد من عسير الأمر ويسيره، ولو استطاعت أن تمنع المبشرين من دخول المستعمرة لنشر الدين المسيحي لفعلت، ولكن أنَّى لها ذلك وهي دولة مسيحية تكره أن يُعرف عنها أنها تحارب نشر الدين في مستعمراتها. ولكنها نظمت سيرة هؤلاء المبشرين في المستعمرة فلم تُتح لهم إلا أن يُعلِّموا قلة ضئيلة من الناس، وكيف السبيل إلى نشر الدين بغير تعليم، وقد فرضت عليهم أن يعلِّموا هذه القلة أول ما يعلمونها الطاعة والإذعان لسادتهم البلجيكيين، ومعاشرة أهل الكونغو لسادتهم من جهة وللمبشرين من جهة ثانية. وهذا التعليم القليل الذي أتاحه المبشرون لبعضهم على ضآلته وعلى ما كان يمازجه من وجوب الطاعة والإذعان للسادة؛ كل هذا أحدث آثاره على مر السنين، وإذا أهل الكونغو يعرفون أنفسهم ويشعرون بأن لهم حقوقًا مضيعة وبأن عليهم لأنفسهم ولمواطنيهم واجبات ينبغي أن تُؤدى، وكذلك ينشأ البغض في نفوسهم لسادتهم، ثم يستحيل البغض إلى ضيق بهؤلاء السادة، ثم يستحيل الضيق إلى ثورة بهم. وتحاول بلجيكا ما استطاعت إخماد هذه الثورة، ولكن الثورة أشد منها قوة وأعظم منها بأسًا، وإذا هي مضطرة إلى أن تسلك سبيل غيرها من الأمم الأوروبية، فتعترف باستقلال مستعمراتها، بعد أن تستوثق لنفسها من الامتياز وتستوثق بأبنائها من استغلال الأرض وأهلها؛ كما كانت الحال قبل الاعتراف بالاستقلال، وهي مطمئنة إلى أن الأمور ستستقيم لها؛ لأنها أمسكت أهل المستعمرة في جهل مطلق ولم تهيئهم لحكم أنفسهم ولا لاستغلال أرضهم ولا لحفظ النظام في بلادهم. وما رأيك في أنها أنشأت جيشًا من أهل الكونغو ولكنها لم تُعلِّم واحدًا منهم؛ ليستطيع في يوم من الأيام أن يكون ضابطًا في هذا الجيش. وما رأيك في أن الذين علمهم المبشرون من أهل الكونغو قلة يمكن إحصاؤها بل يمكن إحصاؤها في العدد اليسير. وكذلك اطمأنت بلجيكا إلى أنها ستعبث بمستعمراتها بعد الاستقلال كما كانت تعبث قبل الاستقلال، وخيلت إلى نفسها أنها متى اعترفت لمستعمرتها بهذه الكلمة الحلوة التي شاع حبها في أقطار الأرض وهي كلمة الاستقلال، ستخدعهم عن كل شيء، ستعطيهم كلمة ترضي غرورهم وكبرياءهم، وتستأثر هي بكل ما كانت تستأثر به من قبل. ولكن أهل المستعمرة لم يُخدعوا، وإنما أخذوا الاستقلال مأخذ الجد، وأرادوا أن يكونوا سادة في وطنهم، وأن يكونوا أحرارًا باللفظ والمعنى لا باللفظ وحده، وكما كانت تظن بلجيكا. وهنا ظهرت المشكلة وكانت الخطوب التي يعرفها القراء مما تنشر لهم بالصحف في كل يوم.
ورأينا لأول مرة في تاريخ تحرر الأمم من الاستعمار هيئة الأمم المتحدة مضطرة إلى أن تدخل بين بلجيكا ومستعمرتها السابقة؛ لأن هيئة الأمم نفسها نظرت إلى استقلال الكونغو على أنه جد لا لعب، وما دام الكونغو قد استقل فليس لبلجيكا فيه مكان، فضلًا عن أن يكون لها فيه امتياز، وفضلًا عن أن تستأثر من خيراته بكل ما تحب وتتخذ أهله رقيقًا كالأحرار أو أحرارًا كالرقيق.
وليس غريبًا أن يظهر في الكونغو أعوان الاستعمار كما لم يظهروا في مستعمرة متحررة أخرى، فما دام أهله لم يتعلموا وما دامت القلة التي تعلمت منهم قد تعلمت الطاعة قبل كل شيء، فطبيعي أن يكون بين هذه القلة من يرون الطاعة للمستعمرين واجبة لا سبيل إلى الإهمال في أدائها، هو أن هيئة الأمم المتحدة تنهض في الكونغو بأعباء لم تنهض بمثلها من قبل، فهي لا تكفل استقلال الكونغو وإخراج البلجيكيين منه فحسب؛ بل يُطلب إليها أن تُعِين الكونغو إعانة فنية على حكم نفسه والمحافظة على النظام من جهة أخرى واستثمار بلاده من جهة ثالثة. وسنرى كيف تنهض هيئة الأمم بهذه الأعباء.
No comments:
Post a Comment