Saturday, February 1, 2014

إبراهيم عبد القادر المازني : الزواج ليس لعبًا أو تجارة! - جريدة أخبار اليوم ٢٦ يناير ١٩٤٦




أغرب العادات التي لا تزال مَرْعِيَّةً في الأقاليم، وعند الأسر التي توصف بالقِدَم، أنهم يأبون أن يزوجوا البنت الصغرى قبل أختها الكبرى، وإذا كان في البيت فتى وفتاة أحجموا عن تزويج الفتى، حتى يمن الله على الفتاة بمن يحملها ويمشي عنهم بها. وقد يفعلون ما يغلب أن يكون شرًّا من ذلك، فيجعلون الأمر مقايضة ومبادلة، فيأخذون بنتك لابنهم، ويعطونك بنتهم لابنك، ويحلون الإشكال على هذا النحو المرذول الذي قَلَّمَا يَجُرُّ غير المتاعب، وأنا أعرف أسرًا شقيت بناتها وتعس بنوها زمنًا لأن الآباء لم تطاوعهم نفوسهم على تزويج الصغيرات قبل الكبيرات، ولأن الشبان انصرفوا عن الزواج دعاية منهم لأخواتهم، وجريًا على هذه السنة العتيقة. وقد يكون هذا مظهر رفق محمود، وحنو كريم، ولكن الأمر مرجعه إلى العادة، والعادة هي التي تغري البنت الكبرى بالاعتقاد أن من الإساءة إليها أن تسبقها أختها الصغرى إلى الزواج، فإذا تغيرت العادة وأصبح مألوفًا أن تتزوج البنت حينما يقسم لها الزواج، تغيرت النظرة والاعتقاد تبعًا لذلك، ولم يَرَ أحد بأسًا أن تتقدم هذه أو تتأخر.
ومعقول، ومقبول أن يحرص الأب على تزويج بناته، ولو أخَّر بنيه من أجلهن، فإنهن أضعف، وحياتهن في الأقاليم على الخصوص خالية من الفرص، وقد تتعبهن وتنغص حياتهن زوجة أخيهن، فإننا ما نزال في الأغلب والأعم نحشد في بيوتنا الأزواج، ولا نفطن إلى مزايا الحياة المنفصلة لكل زوجين، أو لا تساعدنا الموارد على هذا الاستقلال، وليس بالنادر أن نزوج أبناءنا قبل أن يفرغوا من الدروس والتحصيل، أو قبل أن يخرجوا إلى الحياة، ويكسبوا أرزاقهم فيها بكدهم وحدهم.
ولكن سلوكنا هذا مبني على أخطاء شتى، منها الظن بأن التعجيل بتزويج البنت خير، وأن بقاءها بغير زوج بلية، وأنه يخشى عليها العنس، وأن كل رجل يصلح أن يكون زوجًا لبنتك ما دام مشهودًا له بحسن الخلق واستقامة السلوك، ومعروفًا أنه قادر على الإنفاق على امرأته.
وهي جملة أخطاء متراكبة، فليس التعجيل خيرًا أو أرشد؛ لأن زماننا يتطلب أن تكون الزوجة على حظ من التعليم، وقَدْرٍ من الاتزان، وأن تكون حسنة الإدراك لمعنى الزواج ومقتضياته، ومُلِمَّة إلمامًا كافيًا بالحقائق والخصائص والجنسية، وليس هذا — أو بعضه — بالذي يتيسر في سِنٍّ غضة.
وليس مَطْلُ الأيام بموجب في كل حال أن تعنس الفتاة، وصحيح أن كل شيء في هذه الحياة قِسَمٌ وأرزاق، ولكن من الصحيح أيضًا أن للمرأة في كل سن مزيتها الخاصة التي لا تكون لها في سن أخرى؛ فليست المرأة في عنفوان الصبا خيرًا في كل حال منها في الثلاثين أو حتى الأربعين، وإن كانت أفتن وأقوى إغراءً، ومثلنا العامي يقول إن كل فوله لها كيال، فلا ضير في ارتفاع السن في ذاتها، فإنها خليقة أن توفق إلى الرجل الصالح لها في كل سن تبلغها، فإذا لم يقيض لها الله الرجل الموافق فلا حيلة؛ فإنها حظوظ.
وأما الاستقامة وحسن السلوك، فكل الناس مستقيم، وعلى خلق عظيم بشهادة الإخوان ووسطاء الخير! فلا قيمه لهذا ولا تعويل عليه، ولو كان لي بنت وأردت تزويجها لما عبأت شيئا بهذه الاستقامة، ولآثرت لها رجلًا مجربًا خبيرًا، يستطيع أن يملك زمامها، وأن يسعدها، بعد أن قضى وطره قبل ذلك من دنياه، وشبع من إرسال نفسه على سجية الشباب.
والمثل العامي — وما أحكم أمثالنا وأعمقها — يقول: «امشي في جنازة، ولا تمشي في جوازة» وذلك لأن المشي في جنازة مظهر عطف كريم ومجلبة ثواب، أما المشي — أي السعي — في تزويج اثنين، فكثيرًا ما ينتهي بجمع المتنافرَيْن اللذين لا يأتلفان، فيسخطان على الذي جمع بينهما بلعناته. وإنما يكون هذا هكذا لأنه قلما تراعى الحقائق الأساسية في الزواج؛ فليست المَزِيَّة أن تكون الزوجة رشيقة خفيفة ومليحة جذابة، بل أن تكون فاهمة مدركة لمهمتها وللطبيعة الإنسانية، وما أكثر ما يتعجب الناس لرجل يرونه سعيدًا بزوجة دميمة! والحقيقة أن جمال المرأة يفتُر وقعه على الأيام، وأن الألفة وطول العهد به يورثان الرجل الملل، أو على الأقل يُضعفان الإقبال والرغبة، فإذا الرجل والمرأة يعيشان على الذكريات لا في حاضرهما، فإذا ضعُف الرجل عن احتمال الفتور والملل، وكانت فيه بقية من حيوية، وعجزت الزوجة عن تجديد نفسها له، واقتناصه مرة أخرى، فإنه خليق أن يَغوَى، ويروح ينشُد — خارج بيته ومع غير امرأته — ما ينقصه في بيته ومعها.
ومن هنا قال بعضهم — مازحًا على ما أظن — إن الزواج سبيل إلى الغواية، وهو مزح مبطن ببعض الجد، والجد الذي فيه هو أن الزوج الذي لم يتبلد خليق أن يجمح وينبو في العنان إذا عجزت الزوجة عن استدامه رغبته فيها وإقباله عليها — أي عن مكافحة الملل الطبيعي الذي يَجُرُّهُ طول الألفة، وليس كل الرجال سواء، فإن منهم من يستطيع أن يروض نفسه على السكون إلى ما يفرضه الواجب ويحتمه الإنصاف للمرأة، وإلى ما يُهيب به من ضميره، ولكن هؤلاء الأقلون، فلا قياس عليهم.
ولست ممن يذهبون إلى أن كل زواج يجب أن يكون مبنيًّا على الحب ولا أنا ممن يقولون بجواز زواج اثنين لا يعرف أحدهما الآخر، ولا شك أن الحب أساس متين، ولكن كل نار إلى رماد، إلا إذا وجدت من لا يزال معنيًّا بإلقاء الحطب عليها لتظل مستعرة، وقلما يتفق هذا، والأغلب أن تخمد بعد زمن طويل أو قصير، وكثيرًا ما يسعد زوجان ما رأى أحدهما صاحبه إلا ليلة الجلوة، غير أن هذا لا يَطَّرِدُ، ولا ثقة به، ولا اعتماد عليه، والأشيع هو الفشل. وعندي أنه يكفي في البداية أن يكون هناك قدر معتدل من الإقبال والرغبة، متبادَل بين الرجل والمرأة، والمعول بعد ذلك ليس على قوة الحب الذي أفضى إلى الزواج، بل على نوع الحياة بين الزوجين، وأساسها أن يكون كلاهما على علم وافٍ بالحقائق الجنسية، فإنهما إذا لم يعرفاها، أو لم يُحسِنَا تطبيقهـا، لم يُغْنِ عنهما شيء آخر.
أقول هذا عن تجربة شخصية؛ فقد تزوجت — أول ما تزوجت — إحدى قريباتي، وكان بيننا حب، أو على الأقل مودة، وكنت شابًّا جاهلًا، لا عناية لي إلا بكتب الأدب التي كادت تسلبني نور عيني حتى احتجت إلى علاجها ستة أعوام متواصلة، وبعد زواجنا بقليل توالت الخلافات والمنازعات والشقاق بلا سبب ظاهر أو علة مفهومة، حتى كاد عقلي يطير، وحتى تلفت أعصابي ومرضت بالنيرستانيا، ثم اتفق أن وقعت على مجلة فيها شيء عن الجنس تبينت فيها بعد أنه خطأ محض، ولكنه أعجبني وأغراني بدرس هذا الموضوع، فأقبلت عليه، وخرجت منه بعلم نافع عملت به، ففزت بسعادة لا أقول إن غيري لم يَفُزْ بها، ولكنما أقول إني كنت أستحقها بمجهودي، وهو مجهود لا سبيل إلى مثله إلا بالعلم. وممَّا أذكره لأن له دلالته أني عانيت في تلك السنين أزمة شديدة أحوجتني إلى بيع كتبي كلها تقريبًا، ثم نفد المال مرة أخرى، ومرض ابننا مرضًا شديدًا، ولم يكن في بيتنا من القوت غير الملح وكسرات ناشفة من الخبز، فجلسنا إلى المائدة — أي والله إلى المائدة — وأمامنا الملح وكسرات الخبز اليابسة، فكانت تلك أطيب أكلة، ولست أذكر أني نعمت في حياتي بأحلى أو أشهى منها! وقد ماتت تلك الزوجة الكريمة بعد أن شقيت معي — لجهلي — ثلاث سنوات، وسعدت بعدها سـبع سنين، وما زلت بعد هذه التجربة ألح في الدعوة إلى تعليم أبنائنا وبناتنا الحقائق الجنسية؛ لأنها هي التي عليها المعول الأول والأكبر، وقد يفيد القارئ ويريه أن الزواج ليس لعبًا أو تجارة أن أقول إني لما تزوجت مرة أخرى شرعت من أول يوم في درس دورة النشاط والفتور الجنسيين في كل شهر قمري، ووضعت لذلك رسمًا بيانيًّا، وواظبت على الملاحظة والدرس عامًا كاملًا حتى اقتنعت واطمأنَّت نفسي إلى صحة ما انتهيت إليه.

No comments:

Post a Comment